العدّ التنازلي لربع قرن مع رجب أردوغان: ناصر قنديل
– لم يكن جدياً وصادقاً موضوعياً الحديث عن العد التنازلي لزعامة رجب أردوغان في تركيا بمثل ما هو اليوم. فتلك الزعامة التي قامت على أركان الوعد بالتنمية الاقتصادية والزعامة الإقليمية لتركيا، انطلقت من الفوز ببلدية اسطنبول قبل ربع قرن، واسطنبول هي البيئة التي حضنت رجب أردوغان الشخص والمشروع، وهي العاصمة الحقيقية اجتماعياً وسكانياً واقتصادياً وسياسياً في تركيا، والانتخابات التي ترنّح فيها أردوغان نيابياً ورئاسياً، لكنه فاز بها في النهاية في هذه المدينة الاستثنائية الأهمية، قرّر منح معركتها البلدية صفة الاستفتاء على زعامته وسياساته، عندما حوّل انتخابات بلديتها إلى ما هو أكثر من مجرد رمزيتها، نحو جعلها بالإعادة المفتعلة معركة الحسم السياسي لمستقبل تركيا، محولاً رئيس البلدية المنتخب من الحزب
الجمهوري المعارض المنافس المقبل على رئاسة الجمهورية.
– جاءت الانتخابات بعدما بلغ أردوغان ذروة ما تطلع إليه، وأخذ الأتراك إلى قعر ما كانوا يخشون منه. فهو نجح بإقصاء منافسيه داخل حزبه وحوّله إلى حزب «الشخص»، وأسقط من الدستور أي شراكة له في القرار ولو من قيادة حزب حاكم تتوزّع مراكز الحكومة والرئاسة، فجعل الحكم حكم «الشخص»، وطهّر التيار الديني المتصالح مع النمط الغربي للحياة، فشطب شريكه فتح الله غولن وزج بكل أتباعه في السجون، وأمم الإعلام وكمّم الأفواه، وامتلك أغلب النظام المصرفي والمصالح الكبرى في شبكة الاتصالات وتجارة النفط. وبالتوازي سقط مشروع «العداوات صفر مع الجيران» الذي سوق له كمشروع إقليمي لزعامته، وجاء السقوط مدوياً. وها هو حلفه مع أميركا ينهار، دون أن يبدو أنه حليف موثوق لروسيا، ووعوده العثمانية السلطانية تتهاوى من سورية وعلى أسوار مدنها ومساجدها الأمميّة التي وعد مرة بالصلاة في نسختها الدمشقية. وعندما صار العجز محكماً، قال هذا حصرم رأيته في حلب فليكن المسجد حلبياً، وتهاوت الوعود بالرفاه والنمو وحل مكانها الركود والتقشف وتهاوي أسعار الصرف وتراجع قطاعات الاقتصاد بلا تمييز، وزيادة نسب الفقر.
– الأكيد أن المعارضة التركية وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري لا تملك وعوداً براقة للأتراك على طريقة ما كانت عليه وعود أردوغان، عندما كان معه حزب فاعل أو عندما بات حزبه مجرد يافطة يرفعها بلا روح، بعدما حوّله إلى مجرد إطار لخدمة حزب الأخوان المسلمين خارج تركيا على حساب الأتراك، ودائماً كانت خسارة المعارضة التركية أمام أردوغان تعود إلى عدم التوازن بين الخيارات والوعود التي يقدّمها الفريقان، حتى صار مجرد الوعد بالتخلص من أردوغان جاذباً. فالأتراك يقولون بتصويتهم في اسطنبول إنهم ليسوا بحاجة إلى وعد بسلطان جديد وباب عالٍ جديد، ولا إلى وعد بنمو ورفاه، بل يكفيهم أن يأمنوا العيش كمواطنين في دولة تحترمهم ويمنحهم كرامة العيش وحرية القول وحق الشراكة في مناقشة الخيارات.
– تغوّل مشروع أردوغان بينما كان الأتراك يفقدون هويتهم القومية لحساب الهوية الأخوانية، ويفقدون معيشتهم اللائقة لحساب تغوّل آخر لبطانة أردوغان مالاً وفساداً، ويخسرون مهابة جيشهم لحساب ميليشيات مسلحة من الأخوان المسلمين الهاربين من بلدانهم والحائزين على امتيازات تعلو على المواطنة، ويخسرون الإحساس بالأمن والحرية مع ظهور شركات الأمن الخاصة تنتشر في شوارع وأحياء مدنهم ومواكب المرافقات المنفرة والمستنفرة، وتنامي وسائل الإعلام المبهرة بالتقنيات والمموّهة بالحريات، والموظفة للعبة بروباغندا التسويق للأشخاص والأفكار والتفاهة في العيش.
– انتخابات بلدية اسطنبول تقول إن لحظة الحقيقة المرة التي رفض أردوغان تجرّعها على مراحل، بعدما أصرّ على إعادة الانتخابات وجعلها حرباً سياسية مصيرية وجودية، باتت كأس سم يتجرّعها دفعة واحدة.