“الطائفيات اللبنانية” على مفترق طرق حاسم 2: ناصر قنديل
– يظنّ قادة الطائفيات المختلفة بإمكانية الجمع بين مخاطبة أبناء «الجماعة الطائفية» بلغة «الدفاع عن الوجود والحقوق»، وبالتوازي مخاطبة الجماعات الأخرى بلغة المصلحة المشتركة والعيش المشترك والنموذج اللبناني المتنوّع والمتعدّد، ولبنان الرسالة، ومشروع بناء دولة القانون، والدعوة للإصلاح والاعتدال ونبذ التعصب والتطرف ومكافحة الإرهاب والفساد ومشاريع التقسيم والتوطين، ويمضون في ممارسة هذا الازدواج ظناً منهم بطاقته على الاستيعاب واحتواء نتائج هذا التناقض دون تهديد وجودي ومصيري للبنان. كما يمضون في هذه اللعبة الخطرة وهم يتوهمون أنه لا زال ممكناً لانتصاراتهم على بعض، مهما كانت وظيفية وتكتيكية وسلطوية، أن تتساكن مع بقاء الاستقرار في لبنان، وإمكانية تحقيق الازدهار لاقتصاده، والوحدة لمؤسساته
.
– ما تقوله وقائع الحياة اللبنانية أن ما كان ممكناً في الماضي لم يعُد ممكناً اليوم، فقد ضاقت رقعة فائض الاقتصاد التي كانت تتغذّى عليها مكاسب الطائفيات التي تناوبت على السلطة، عندما كانت واحدة منها في الحكم فقط. وها هي اليوم جميعها تفاخر بقوتها وحضورها السلطوي وقد حلّ مكان الاقتصاد المزدهر، الدَّين والركود والعجز وبات مطلوباً اقتطاع بعض ما كان قد صار حقوقاً مكتسبة، كي لا ينهار الهيكل المالي والاقتصادي للدولة، وبالتوازي توسع جشع الطائفيات بما لا يقاس بما كان يرتضيه أسلافها لأشخاصهم أو لمريديهم أو لجماعاتهم، فصار النزاع على توزيع المكاسب محفوفاً بالسخونة التي تستدعي استنفاراً دائماً للعصبيات وللخطاب الطائفي وتهديداً بانفجار موجات من المواجهات المعرضة للخروج عن السيطرة، كما تغيّر المحيط الذي تجري فيه هذه الصراعات، وتمارس تحت خيمته هذه الازدواجية الطائفية والوطنية، فأصل فكرة الجماعة الطائفية، يقوم على تبنّي هوية رديفة للهوية الوطنية، يصعب الجمع بينهما كما يصعب التنسيق بين أغراضهما، لا بل إن تغذية إحداهما لا بدّ أن تتم على حساب الأخرى.
– الجماعة الطائفية عندما تتبلور كجماعة في السياسة، فهذا يعني تسويق نظرية بين أبناء الجماعة تقوم على اعتبار أن ما يجمعها يستحق منها التكاتف والتضامن، وبوضوح بوجه جماعات طائفية أخرى داخل الوطن. بينما الهوية الوطنية تقوم على الدعوة للتكاتف والتضامن بوجه عدو خارجي يهدد الوطن. وتضامن الجماعة الطائفية يعني تجاوز التمايزات والتباينات والخصومات لصالح ما يسمّى بمصلحة الجماعة، وهذا يعني دفاع كل جماعة بوجه الجماعات الأخرى عن متطرفيها وفاسديها والتسامح مع الدعوات المريضة داخلها باعتبارها مجرد وجهات نظر مختلفة في كيفية حماية الجماعة. فالتقسيم وجهة نظر لحماية الجماعة، ومد اليد للعدو اجتهاد لحماية الجماعة، وبالتوازي استهداف المتطرفين من اي جماعة إضعاف لقوتها، واستهداف الفاسدين نيل من صورتها ومهابتها. وهذا معنى التضاد الوجودي بين قيام دولة قوية ووجود جماعات طائفية قوية، والمعضلة التي يواجهها التصدّي للإرهاب اليوم هو ضياع الخطوط الفاصلة بين وحدة الجماعة الطائفية وتضامنها وما يعنيه من حاجة لتغطية التطرف والتعصب والإرهاب أحياناً، وبالمقابل الحاجة الوطنية لعزل المتطرفين والمتعصبين والإرهابيين ومكافحتهم كخطر على الوطن، ومثلها طائفيات أخرى تجد نفسها معنية بحماية الفاسدين وثالثة تجد نفسها معنية بحماية التقسيميين وتحويل نظرياتهم إلى اجتهادات في حماية حقوق الجماعة والحاجة لوحدتها، بتبني نظريات تقسيمية تجميلية لقانون الانتخابات النيابية، والمواجهة التي تخوضها كل جماعة تحت شعار الدفاع عن الوجود والحقوق، هي في النهاية حرب باردة لا يعلم إلا الله متى تصير ساخنة ومتفجّرة، والحرب الباردة تستدعي خطاباً وحدوياً تضامنياً بين مكونات جبهاتها من جهة، لكنها تعني أن يتقدّم الصفوف في لحظات المواجهة اشد المتطرفين والمتحمّسين لقتال أو مواجهة الجماعات الأخرى، حتى لو تبنوا نظريات خطيرة في تفسير خوضهم للحروب، ومن يتابع صفحات التواصل الاجتماعي سيجد آلاف الأمثلة على هذه المعادلة.
– الطائفيات اللبنانية مدعوّة للتسليم بأن زمان الجمع للمتناقضات قد انتهى، وأن التوترات التي نشهدها هي مؤشر على دخول المنعطفات الخطرة، وأن دعاة التقسيم والفساد والإرهاب باتوا المستفيد الوحيد من ثقافة وحدة وتضامن الجماعة الطائفية يتغطون بها ويحتمون بمظلتها، وأن وحدة الوطن وإصلاح الدولة ومواجهة الإرهاب تتوقف جميعها، على التجرؤ في التخلص من نظرية وحدة الجماعة الطائفية وتضامنها، لحساب ثقافة المواطنة ودولة المساوة أمام القانون، والمدخل في أي مشروع لبناء دولة وتحديد هويتها يبدأ من قانون الانتخابات النيابية، الذي بات ملحاً أن يحسم أمره بين خيار اعتماد الانتساب للجماعة الطائفية اساساً لبنائه أو خيار اعتماد الانتساب للوطن ومعيار المواطنة بديلاً عصرياً للعبور نحو دولة حديثة تتجنب المخاطر والأعاصير!