صارحوا الناس بالحقائق
غالب قنديل
يدور الهمس واللمز عن خطر انهيار اقتصادي ومالي وشيك بينما يتحدث رئيس الحكومة عن قرارات صعبة وغير شعبية ويعلن سائر المسؤولين عن اعتماد مبدأ شد الأحزمة في الموازنة العامة ويسمع المواطن العادي كل ذلك فيزداد هلعا وخوفا على البلد وهو يقف عاجزا أمام اعباء الحياة المتزايدة بعدما استهلك معظم اللبنانيين هوامش التكيف المتاحة مع الضيق الزاحف وهاجر من هاجر من البنات والأبناء بحثا عن فرص العمل في الخارج الذي تتقلص طاقته على توليد هوامش جديدة بسبب الانكماش الاقتصادي العالمي.
إن أرادت السلطة تفهما من الناس وتجاوبا مع التقشف المطلوب فعليها بداية ان تصارح اللبنانيين بالحقائق وان تعترف بمسؤولية السياسة الاقتصادية والمالية المتبعة منذ العام 1992 عن هذا الوضع الخطير الذي نبه منه كثيرون بينهم ساسة وخبراء وضجت به جلسات المناقشات النيابية طيلة ثلاثة عقود ولا من يستجيب.
المطلوب اعتراف بمسؤولية النهج السياسي الاقتصادي لجميع حكومات لبنان خلال ربع قرن مضى عما آلت إليه الحال من خراب لموارد الثروة وللبيئة ومن غياب قطع الحساب للموازنات العامة الذي انجزته وزارة المال مؤخرا .
المطلوب اعتراف ببذخ الانفاق طيلة هذه السنوات خارج منطق الجدوى أو حسابات المصلحة العامة وبالخضوع لمنطق تقاسم المنافع والحصص وبالارتهان لوصاية صندوق النقد والبنك الدولي على حساب المصالح الوطنية وبالرضوخ للعقوبات والطلبات الأميركية المكرسة لخلخلة الوحدة الوطنية للشعب وللنيل من متانة الوضع اللبناني الداخلي في مجابهة التهديد الصهيوني وبتغييب أي تفكير جدي بسبل التصدي لهذا التهديد الاقتصادي الاجتماعي الخطير بل إن البعض سهل مهمة ممثلي الوصاية الأميركية وأعانهم على تطبيق تدابيرهم التي هي من مولدات الانكماش الخطير محليا.
المطلوب اعتراف صريح يسبق مطالبة الشعب بتحمل كلفة التدهور من مستوى معيشته بأن اولويات معظم القوى والكتل المقررة التي تعاقبت في تقاسم السلطة السياسة كانت بعيدة جدا عن مصالح السواد الأعظم من اللبنانيين والتصقت بمصالح شرائح مالية وتجارية ضيقة عششت في اندية المضاربة والريع ونالت كل ما تحتاجه من تسهيلات وحماية على حساب البلد.
ينبغي الاعتراف بالابتعاد عن ممارسة النهج السياسي المتوازن المبني على اولوية المصالح اللبنانية في حساب أي علاقة او شراكة دولية او إقليمية وبالارتهان إلى مراكز قرار دولية وإقليمية على حساب مصالح لبنان العليا وينبغي الاعتراف بأن تورط البعض في الحرب على سورية واستنزاف المقاومة كان على حساب البلد ولا يحجب ذلك انضمام هذا البعض إلى جوقات التفجع على ما أصاب لبنان من نتائج ولاسيما ملف اللجوء الذي أثرى كثيرون من المتاجرة به وهم اليوم يندبون تأثيره المؤلم اقتصاديا.
صارحوا الناس قبل ان تطلبوا منهم التحمل وشد الأحزمة والتقشف وأثبتوا عمليا عزمكم على الشراكة المتساوية في تحمل النتائج من مستوى حياتهم وحياة عائلاتهم بأن تشدوا أحزمتكم وأحزمة بطاناتكم قبل دعوة سائر اللبنانيين إلى التقشف والتكيف مع ظروف صعبة قادمة.
الحقائق المالية والاقتصادية يصعب إخفاؤها او حجبها لفترات طويلة وهي لا تلبث ان تطل برأسها مهما حاولتم إخفاءها او تمويهها فلا مبرر للتكتم عليها ولا يملك مصداقية الإلزام من لا يلتزم فيبدأ بنفسه.
ليس من الصحة في شيء ان تعامل الأزمة على انها القدر المكتوب ولا جهة تحمل الحصة الرئيسية من المسؤولية عن بلوغ البلد لهذا الدرك المخيف الذي يعالج أحيانا بالتكتم تحت شعار عدم التسبب بموجات فزع قد تؤثر على الاستقرار النقدي فطالما السلطة تطالب الناس بتحمل قسط من النتيجة توجب عليها المصارحة وعدم التكتم على شيء وتحمل أهلها للقسط الأكبر.
إذا كان ثمة نهج مسؤول عما وصلنا إليه فيستحيل الخروج من المأزق بالنهج نفسه وإن كان ثمة جهات تحملت المسؤولية وارتكبت أخطاء قاتلة ورطت البلد في المأزق فينبغي ان تحاسب سياسيا وبرلمانيا وإذا كان التضامن هو المطلوب والشراكة في التضحيات فليكن التوزيع العادل لأعباء الأزمة بدلا من صبها في اتجاه واحد وتحميل آثارها الصعبة والقاسية للطبقات الشعبية وعلى المسؤولين عن أي خطة إنقاذية ربطها بالمهل الزمنية بكل وضوح وعلنية تحت طائلة الحساب.
إن العمى الطائفي والمذهبي عطل اليقظة الشعبية بينما يثبت عجز النموذج الاقتصادي النيوليبرالي التابع والمرتهن للغرب والخليج وعقمه بينما القوى القيمة عليه تصرخ اليوم طلبا للنجدة مما فعلته هي بالبلد رغم التفويض الواسع الذي حظيت به في السلطة السياسية وفي سدة القرار الاقتصادي والمالي وانتجت للبنان كارثة مبرمة تضرب حولها ستارا سميكا من التكتم والتعتيم.