تركيا مجدداً إلى الواجهة… حدود التغيير: ناصر قنديل
– الحدث في تركيا ليس عادياً مهما حاول مؤيّدو الرئيس التركي رجب أردوغان التهوين وتصوير الأمر مجرد تعبير ديمقراطي مألوف. والحدث بالمقابل ليس نهاية حزب العدالة والتنمية ولا سقوط زعامة أدروغان مهما كانت رغبات وتمنيات خصومه المحليين والخارجيين. الحدث مفصل مهم في مسيرة أردوغان وحزبه، كما هو مفصل مهم لمستقبل الأحداث في تركيا ومن حولها. وتركيا هي بلد شديد الأهمية في توازنات المنطقة. والانقسام السياسي التركي ليس انقساماً على الخيارات الداخلية فقط، بل على الموقع والدور في الأحداث الإقليمية. فالحزبان الرئيسان المستفيدان من تراجع أردوغان وحزبه هما الحزب الجمهوري الذي يقف على نقيض سياسة أردوغان في سورية منذ البدايات، وحزب المجموعات الكردية الذي يقف أيضاً على نقيض من نوع آخر لسياسات أردوغان وحزبه من الوضع في سورية، وسورية هي بوابة تحديد مستقبل تركيا الإقليمي، كما كانت ولا تزال .
– لا بدّ من التذكير بأن إطار التغيير الراهن والمتمثل بخسارة أردوغان وحزبه بلديات مدن كبرى، يتصدّره الفشل الأول من نوعه للحزب الحاكم في اسطمبول التي تشكل ركيزة زعامة الحزب وزعامة أردوغان، وهو فشل يلي أكبر حدثين في تاريخ الحزب، محاولة الانقلاب التي حولها منصة لتصفية الخصوم، والانتقال إلى النظام الرئاسي الذي حوله مساراً لصعود زعامة فردية لأردوغان وعائلته ومريديه على حساب المؤسسة الحزبية التقليدية. ومنذ الحدثين الكبيرين سلك أردوغان ومن معه في الحزب مسيرة تراكمت فيها خصومات وعداوات تجعل من المستحيل العودة إلى الوراء، وتجعل الفشل محطة لمسار وخط بياني مرشح للتراكم، خصوصاً أن الحزب قد مرّ بتجربة يسمّيها البعض الإنذار الديمقراطي، أو رسالة الناخبين التحذيرية، فما يجري اليوم يتخطى ذلك، لأن انتخابات 2015 التي فشل خلالها الحزب في تحقيق الأغلبية النيابية اللازمة لتشكيل حكومة، حملت هذا المعنى، وعاد في الانتخابات المبكرة لفوز كبير بناء على وعود المراجعة وإعادة النظر وتصحيح الأخطاء، فكانت انتخابات اليوم هي المحاسبة ما بعد الإنذار.
– لعب الوضع الاقتصادي دوراً أكيداً في تراجع شعبية أردوغان وحزبه، وهي شعبية ارتبطت منذ مطلع القرن بالإنجازات الاقتصادية، لكن الأكيد أن المعارضة التي حصدت نتائج تراجع أردوغان وحزبه لا تحمل وعوداً اقتصادية تفسر صعودها، وهذا يعني أن تأثير العامل الاقتصادي كان بحدود تجريد أردوغان وحزبه من ورقة قوة تقليدية، وليس بامتلاك خصومه ورقة قوة منافسة، ما يستدعي البحث في العناصر المرافقة للبعد الاقتصادي في تفسير تراجع، هو الأصل في تقدّم الخصوم، وليس في تفسير تقدّم الخصوم كسبب للتراجع. وهنا تظهر ثلاثة اسباب كبرى، الأول غياب المشروع الجاذب، وسقوط الرهانات الإقليمية التي باعها أردوغان كأحلام للرأي العام التركي، بدأت بمشاكل صفر مع الجيران، واستبدلت بمشروع العثمانية الجديدة، وتجلّت بوعد السيطرة على سورية، وتطوّرت إلى وعد بسحق الجماعات الكردية، وتبدّلت خلالها التحالفات من التموضع مع أميركا وحلفائها إلى البحث عن مكان وسط بالانفتاح بعد أزمة، على روسيا وإيران، وصولاً إلى ضبابيّة تجعل الحكم في مرحلة إدارة أزمات لا رسم سياسات، ولا تبنى الأحلام الكبرى على إدارة الأزمات، فهذا يقدر عليه أي رئيس وأي حزب، أما العامل الثاني فهو حجم مترتبات السياسات السابقة على الداخل التركي وتفاعل هذه المترتبات مع الضغط الاقتصادي، من حجم وجود الجماعات الإرهابية التي جيء بها للقتال في سورية وتموضعت في تركيا، وصارت سبباً لمشاكل أمنية تتفاقم وتكبر، إلى حجم اللاجئين السوريين والامتيازات التي منحت لمؤيدي الأخوان المسلمين منهم وتجنيسهم ومنحهم مكاسب اقتصادية، ومثلهم الأخوان المصريون ومنافستهم لأبناء البلد على الأدوار والمهن والمكاسب، أما العامل الثالث فهو حال التغوّل التي أصابت الفئة الحاكمة وهي صارت أقرب لمجموعة الشخص، منها إلى الحزب، وبرزت عليها علامات الثراء الفاحش بسرعة، وتم إقصاء قادة الحزب التاريخيين عن الواجهة، ووضع الآلاف في السجون بتهمة المشاركة في الانقلاب وأقصي مئات الآلاف عن مهنهم وتم تشريدهم، وكُمّت الأفواه وصودرت الحريات، ومورست العنصرية بحق الأكراد، بصورة شكلت مع مشروع سياسي هابط أساساً لبيئة شعبية غاضبة تعاملت معها أحزاب المعارضة بتواضع وعقلانية ومرونة.
– تركيا ستذهب لمدى متوسط يمتد حتى الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، نحو التعددية والمساكنة لازدواج سيصعب على أردوغان وحزبه تجاهل حضوره، وسيفرض ذلك حضوره في السياسات الإقليمية، وسيكون صعباً تخطيه في الانتخابات المقبلة رئاسياً ونيابياً إلا إذا قام أردوغان بخطوات دراماتيكية بحجم الانفتاح على سورية والتعاون مع دولتها، والاقتراب من حلف إقليمي يضم تركيا مع سورية والعراق وإيران، يقارب المسألة الكردية بمرونة وعقلانية، وإلا سيشكل الامتحان القاسي للانتخابات البلدية صورة مصغرة عما ستشهده الانتخابات النيابية والرئاسية بعد أربعة أعوام، وستكون البلديات التي فازت بها المعارضة الماكينات الانتخابية لهزيمة تاريخية لأردوغان وحزبه.
– تجربة حكم الأخوان المسلمين في آخر معاقلها وأهمها تبدو وهي تحتضر. هذا هو درس التاريخ. وهذه هي عبرة الجغرافيا. وهذه التي سيتذكرها أردوغان جيداً، لعنة سورية تلاحق من تسبّب لها بالأذى ولن ينجو منها أحد. وهذه معادلة قام هو برسمها بقوله ذات يوم، أن واحداً من إثنين يجب أن يغادر الحكم، الرئيس التركي رجب أردوغان أو الرئيس السوري بشار الأسد. وها هو التاريخ يرسل إشاراته الواضحة مَن سيغادر ومن سيبقى!