نزوح غير شكل! بقلم: ابراهيــم عوض
إسمه “أبو يوسف” هكذا ينادونه. هو بائع خضار وفاكهة. عرفته في العام 2011 مع بدء الأحداث في سوريا حين جاء الى لبنان وابتاع دكاناً صغيراً في منطقة “كركول الدروز” في بيروت، حيث أُقيم منذ العام 2000، بعد أن تملّكت منزلاِ في “سنتر” بُني حديثاً .
دكان صغير للغاية، لكن بالنسبة له “خير وبركة” على حد قوله، يراه فسيحا ولا غروَ أن يتخذه مأوى له في الوقت نفسه ينام داخله عند منتصف الليل بعد أن يغلق بابه ويقفل على نفسه.
قانع في حياته المدعو “أبو يوسف”. تراه يستقبل الزبائن بالترحاب وابتسامة لا تفارق محياه. يحرص على عرض أفضل أنواع الفاكهة والخضار بأسعار مقبولة، اذا ما قيست بتلك “النارية” التي يتباهى بها أصحاب محلات ودكاكين و”سوبر ماركت” مجاورة، من منطلق أن الحي أو الشارع الذي يتواجدون فيه مصنّف بما يسمى “الهاي كلاس” المرادف هنا للطبقة الميسورة، أي لا شعبية ولا متوسطة، مع العلم أن فيها قانطون ينتمون الى الفئات الثلاث وإن كانت الغالبية للأولى.
ليس هنا بيت القصيد.. فما عنيته في كلامي هو القول بأن هذا الرجل الخمسيني، السوري الجنسية، والذي كان يقيم في “دير الزور” جاء الى بيروت هرباً من “جحيم” المعارك والمجازر التي قلبت وجه بلاده رأساً على عقب، بعد أن أضحت بين ليلة وضحاها مرتعاً لتنظيمات إرهابية على أنواعها استغلت “انتفاضة” شعبية رفعت عنوان “الإصلاح” لتفتك ببلاد الشام.
هكذا لم يجد “أبو يوسف” مفراً سوى اللجوء الى لبنان، وفي ظنه أن الأحداث في وطنه لن تطول كثيراً ليقينه بأن السلطة هناك قادرة على إعادة الأمور الى نصابها.
كان يأمل بأن مكوثه في لبنان مؤقت. تماما كم كنا نشعر يوم حلّ الاضطراب والتدهور الأمني في ربوعنا وبقينا على قدر من التفاؤل نترقب عودة الهدوء مع كل وقف اطلاق نار، وتشكيل لجان تنسيق وارتباط وفتح طرقات كان يُعلمنا بها صوت المذيع الراحل شريف الأخوي من إذاعة “صوت لبنان” والذي حمل لقب “سالكة وآمنة” عن جدارة.
تفاؤلنا هذا، الذي لازمنا منذ اندلاع الحرب البغيضة وحتى انتهائها، حداني ذات يوم بعد أن غادرت وزوجتي الحامل مهى بيروت الى لندن في العام 1982 للعمل هناك في مجلة “الحوادث” لصاحبها الصحافي الكبير الراحل سليم اللوزي بطلب من زوجته السيدة أمية، ألاّ نفتح حقائب السفر خاصتنا لأكثر من شهرين ليقيننا بأننا عائدان الى بلدنا والحرب لن تطول. فكنا على خطأ إذ مكثنا في عاصمة الضباب حتى العام 1994 وعدنا الى أرض الوطن ثلاثة بعد أن أنجبنا وحيدتنا رين هناك.
النفحة التفاؤلية هذه كانت ملازمة لـ “أبو يوسف” الذي ما فتئ يردد أمامي في كل مرة أبتاع فيها من دكانه، أن عودته باتت قريبة جدا.. عبارة لطالما سمعتها منه على مدى سنوات أربع وصولاً الى العام 2015، حيث حدث “الانقلاب” وتبدلت “اللهجة” – كما يقال – ولم يعد يأِتي على ذكر الحنين الى مسقط رأسه بل تحول الحديث لاطلاعي على ما يعتزم فعله لتوسيع تجارته الرابحة كما أقرّ واعترف. وفاجأني بعزمه على شراء المحل المجاور له. وسرعان ما فعل وأضحى بدل الدكان ثلاثة اذا ما قسنا حجم “مولوده” الأول بما امتلكت يداه الآن.
بالتزامن مع توسعة الدكان وتزايد اقبال الشارين عليه. ها هو صاحبنا “أبو يوسف” يتربع في شقة بمساحة 220 متراً في العمارة نفسها التي أقطنها. وقد جاء بأهله وأشقائه وأبناء عمومته وكل من استطاع اليهم سبيلا كي ينضموا الى الركب معه ومساعدته في عمله، خصوصاً بعد أن وُفِق أيضا في شراء المتجر الأخير الملاصق لـ “امبراطورية الفاكهة والخضار” خاصته حتى بات قاصدوه يأتون اليه من مناطق مختلفة، بعد أن ذاع صيته وجرى التداول بعبارة أن “أفضل أنواع الفاكهة وأجودها تجدها عند أبو يوسف”. وقد شاهدت بأم العين زوجات وزراء ونواب وأطباء وقضاة ومحامين.. ينتقون ما يريدونه من الصناديق المرتبة بعناية، وكأن البضاعة المعروضة فساتين وبدلات من اشهر الماركات، لا خيار وطماطم وبطاطس وفريز وعنب وتفاح.. ولا بد من الإشارة هنا الى أن أسعاره لم تعد، كما كانت معقولة أو مقبولة، بل ارتفعت كثيرا حتى بات هناك من يصفه بـ “الجوهرجي“!.
طموح صاحب اللقب الجديد لم يقف عند هذا الحد. فها هو يوم السبت الماضي يحتفل بافتتاح محل آخر لبيع العصائر والمرطبات والحلويات المبردة. وقد أحضر لهذا الغرض فرقة طبل وزمر وزيّن مدخل المحل بالبالونات والشرائط الملونة وراح يوزع الحلوى على الزائرين والمارة، الذين أسرّ لبعضهم بأن فرحته هذه ليست لتوسيع “امبراطوريته” بل لأن حياة جديدة كُتِبت له. ونزوحه الذي دفعته اليه الظروف والأحداث المؤلمة التي عصفت ببلده انعكس ايجاباً عليه بعد هذا الجهد الذي بذله في سبيل لقمة العيش، والتي بات يشاركه فيها، داخل منزله، أكثر من 20 فرداً، بينهم الشيوخ والنساء والشبان والأطفال. جميعهم يسكنون في شقته إياها، ناهيك عن أكثر من 50 شخصاً من أفراد عائلته وأقربائه جاء بهم الى بيروت وباتوا يتوزعون على أكثر من منطقة. من هنا يُطرح السؤال أين المصلحة لمن هم على غرار “أبو يوسف” بالعودة الى سوريا وطنهم الأم؟!.
يقال أن لدينا ما يقارب المليون ونصف المليون لاجئ أو نازح سوري. عدد لا بأس منهم معارضون للنظام ويخشون العودة. ونحن نتفهم ذلك بالتأكيد. والعمل جارٍ بغية ترتيب أوضاعهم على يد المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، الذي كان أول من أوكلت اليه مسؤولية تنظيم عودة النازحين السوريين حتى بلغ مجموع من عادوا الى ديارهم 170,274 نازحاً. وبين النازحين من هم على وفاق مع النظام ولكنهم خسروا بيوتهم ومتاجرهم التي دمرتها الحرب ولم يعد من مأوى لهم اذا ما قرروا العودة، لذلك باتوا ينتظرون مبادرة دولتهم لمعالجة الأمر، قبل أن يشدوا الرحال وينزعوا عن أنفسهم صفة “النازح”. أما من هم على غرار الوافد الجديد الى دنيا العز عنينا به “الجوهرجي” بائع الخضار والفاكهة فيُعدون بالآلاف. وهؤلاء من الصعب أن يُقدموا على مغادرة لبنان والتخلي عن النعمة التي حلّت عليهم وإن بعد عناء.
بالتأكيد من نتحدث عنهم لا يشبهوا جميعهم “أبو يوسف”. فهناك الراضي بما يجنيه الذي يُعيل أسرته النازحة هي الأخرى، والمستور القانع بعيشته، وفي عدادهم النجار والمعماري والطراش والسمكري والكهربائي.. الذين باتوا يتقدمون الساحة، كلُّ وفق عمله. وهذا ما أثار ويثير حفيظة اللبنانيين العاطلين عن العمل.. لذلك المطلوب معالجة هذا الأمر تحديداً. وهذا ما دعا اليه وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل صراحة. وثمة من حذّر، لا بل نصح، بأن تُولي الدولة عنايتها من الآن في إيجاد الحل المناسب تحديداً لهذه لمجموعة الكبيرة من السوريين الراضين والراغبين بالبقاء على أرضنا حتى باتوا يصنفون بنازحي “الهاي كلاس” الذي أضحى نزوحهم يعدّ “غير شكل” من باب رُبَّ ضارةِ نافعة.
الانتشار
(عن “البيان” الطرابلسية)