المساكنة تحت الوصاية والديون
غالب قنديل
لايمكن للمتابع الحصيف احتساب السخط والغضب على صفحات التواصل الاجتماعي في لبنان تعبيرا جديا عن المناخ الشعبي الموزع فعليا على العصبيات والخنادق الطائفية والمذهبية التي جددتها الانتخابات النيابية بصورة واضحة وخصوصا في نتائجها التي أفضت أخيرا إلى حكومة بعد طول انتظار تبادل بعده جميع المشاركين التهاني واحتفل كل منهم بانتصاره رغم ان نهايات الخلافات والنزاعات لم تكن صريحة بل غلفت بتفاهمات زادتها التباسا وغموضا لحفظ ماء وجوه المعاندين والواهمين …
جاء إعلان التشكيلة بعد مخاض عسير تعرجت مساراته بين فعل التناطح على التقاسم السياسي والطائفي وبين انعكاسات ومفاعيل الوصاية الأميركية المشددة وشروطها ضد المقاومة والمكرسة لمنع انضمام لبنان الرسمي إلى الحلف السوري الإيراني الطامح إلى جذب العراق ولبنان وحيث كمية من الحوافز والضرورات الاقتصادية الاجتماعية يزيدها فاعلية وأهمية حجم الارتباط والتحالف بين إيران وسورية وكل من الصين وروسيا في الصراع العالمي الضاري على الثروات والأسواق في مجابهة الهيمنة الاستعمارية الأميركية.
صيغة التقاسم السياسي والطائفي مستمرة وبلغ التطاحن فيها وتيرة أعلى من السابق بل واكثر فجاجة في تنافس أرعن على الوزارات التي يتوقع ان تنال حصة جيدة من سلة الديون التي تم التفاهم عليها مع حكومات وبنوك وشركات غربية في مؤتمر سيدر.
كان السباق مستعرا على الحصص من كعكة الديون التي شهدت تعديلا هيكليا عندما أرفقت بقيود الوصاية السياسية وبتصعيد الشروط الأميركية التي تستهدف المقاومة في علاقتها بالجيش اللبناني وكذلك في اعتبارها هدفا لعقوبات “تجفيف الموارد ” التي يرضخ لها النظام اللبناني ويتكيف معها ولا يعترض حتى على وسم المقاومة بالإرهاب ويصمت المعنيون وبعضهم يبلع ريقه ويبتسم.
بعض حسني النوايا يعتبرون ذلك التعامل نوعا من التحايل الذكي والممكن في مجابهة الإمبراطورية الاميركية المتوحشة التي تكشر عن انيابها وتسن مخالبها في كل مكان من الكرة الأرضية بعدما لحق بها من الهزائم في حروبها وغزواتها طيلة العشرين عاما الماضية.
الشهر الذي شهد الولادة الميمونة كان حافلا بحضور شخصي لمفوضي الوصاية الأميركية فقد زار بيروت تباعا السفير ديفيد هيل والجنرال جوزيف فوتيل ومعاون وزير الخزانة لمكافحة الإرهاب مارشال بيلينغسلي وقد حملوا إلينا شروطهم طالبين ممن التقوهم مراعاة دفتر الإملاءات الأميركي الذي يفترض بالحكومة الجديدة ان تلتزم به.
الجيش اللبناني مهدد بحرمانه من السلاح والذخائر الأميركية إذا طور تعاونه مع المقاومة وطرق البدائل مسدودة بالوصاية واقتصاد لبنان مهدد بمزيد من العقوبات المالية والمصرفية إذا استجاب لفكرة التطوير المستحق للعلاقة بسورية والعراق وإيران وروسيا والصين أيضا وهي متنفسه للتخلص من قيود قاهرة.
نتيجة هزائمها وفشل غزواتها وحروبها المباشرة وبالواسطة تجد واشنطن في المساكنة القسرية بين المحورين في لبنان أفضل الممكن وهي بدأت مسيرة التكيف مع متطلباتها منذ حكومة الرئيس تمام سلام واعتبرتها ممرا إجباريا لمحاولاتها العاثرة لمحاصرة حزب الله ومنع التشبيك المحتمل سياسيا واقتصاديا ودفاعيا بين لبنان وسورية وهي تريد فعليا بالإضافة لعرقة العلاقة مع سورية وإيران لجم أي تطور مثمر لعلاقة لبنان بكل من روسيا والصين في المجالين الاقتصادي والدفاعي …إذن فالحكومة الجديدة ستكون حلبة صراع بين المحورين الدوليين المتنافسين في وقت تصبح معه المساكنة بينهما أشد صعوبة وقسوة في جميع انحاء المنطقة بل وعلى امتداد الكرة الأرضية وفي ساحات الحروب الساخنة والباردة المشتعلة في القارات الخمس.
القرارات التي يتوجب على الحكومة البت بها تتصل بالعديد من وجوه الاختلاف على موقع لبنان وخياره الإقليمي اتجاه سورية وإيران وروسيا والصين وبين جزرة الديون وعصا العقوبات ستكون الحكومة منقسمة على نفسها تعمد إلى تسويات فحواها اختراع أشكال وطرق مبتكرة في التحايل وتسويق انصاف المواقف المتلعثمة لتحاشي انفراطها او انقسامها على وتر مشدود في صراع عالمي وإقليمي مستعر يبدو التحايل عليه بالحروف والكلمات امرا أصعب من أي وقت مضى.
يوميات الاهتمام اللبنانية ومفرداتها سوف تطال حصص التوظيف والمشاريع من سلة الديون لكنها جميعا غلاف إلهاء يختفي خلفه خطر الوصاية الأجنبية ودوام الهجرة التي تأكل الطاقة المنتجة الفتية في البلد ومع ذلك ستشتد وطأة حلقة الدين والوصاية السياسية التي تستهدف النيل من عناصر القوة في وجه التهديد الاستعماري الصهيوني المستمر.
سيكون التحدي الحقيقي لأي توجه وطني ثوري هو في كيفية انتهاج خيار سياسي يشهر إرادة المقاومة والتحرر من الوصاية الأميركية الصهيونية ويبني في قلب تلك العملية قوة تغيير عابرة للطوائف تحل مكان حكومات المساكنة وتسوياتها معادلة جديدة تعبر عن إرادة وطنية تحررية تتيح للبنان ان يلحق بالركب الإقليمي السوري الإيراني إلى تكتل الشرق الأوسع الذي يزخر بوعود نماء تاريخية وبمناعة وقدرة استثنائية تصون التحرر والاستقلال وتتيح الإفلات من براثن الهيمنة والوصاية.