ترمب وقرار الانسحاب من سوريا- منير شفيق
يُشكل انسحاب الولايات المتحدة من شمال سوريا فرصة لعودة دفء العلاقات بين أنقرة وواشنطن بالرغم من أن أنقرة غير مستعدة للتضحية بتقاربها مع إيران وسوريا رغبة منها في ممارسة دور أكبر في الترتيبات الإقليمية .
لعلّها المرة الأولى التي يتخذ الرئيس الأميركي دونالد ترمب قراراً فيه مستوى مُعتبرٌ من الحسابات الدقيقة لموازين القوى والتحالفات، ومن ثَمّ فقد حمل القرار أبعاداً وجيهةً قياساً على المصلحة الأميركية العليا، وهو قرار انسحاب القوات الأميركية من شمالي سوريا.
صحيح أن القرار جاء مخالفاً، وبعناد طفوليّ، لأهم أعضاء إدارته ومستشاريه؛ منهم وزير الدفاع جيمس ماتيس، ووزير الخارجية مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي جون بولتون. ونزل من جهة أخرى كصفعة على وجه نتنياهو، وهو الوجه الذي لا يحب دونالد ترمب أن يراه عابساً ومأزوماً، ولكنه قرارٌ هام وله ما بعده.
إن الأهمية الأولى لهذا القرار تعود إلى سحبه فتيلاً قابلاً للاشتعال في أية لحظة بين أميركا وتركيا؛ وذلك بسبب الحرص التركي الإستراتيجي ضد قيام وجود عسكري كردي بحماية أميركية في شمالي سوريا فالانحياز الأميركي للأكراد، ودعمهم في مشروعهم الانفصالي السوري يُقِيم جداراً، أو يغرس إسفيناً، بين أميركا وتركيا، ما يجعل البقاء العسكري الأميركي في مصلحة الأكراد في سوريا ضد تركيا، كما هو ضد وحدة سوريا، زرعاً لصراع بعيد المدى بين تركيا وأميركا، كما بين سوريا وأميركا، وهو الخيار الأسوأ من ناحية الإستراتيجية الأميركية تحت كل الاعتبارات.
من هنا فإن قرار الانسحاب يُشكّل تخفيفاً لتضارب المصالح بين تركيا وأميركا، ويمكن أن يفتح آفاقاً لعودة التحالف بينهما من جديد، ولا شك فإن هذا السبب كان حاضراً في ذهن الرئيس ترمب عند اتخاذه هذا القرار، طبعاً هذا لا يعني أن تركيا ستعود فوراً حليفاً لأميركا كسابق العهد، مضحيةً مقابل ذلك بما نسجته من علاقات مع كلٍّ من روسيا وإيران؛ فهذه العلاقات تشكّل بالنسبة إلى تركيا ضرورة إستراتيجية كبرى في هذه المرحلة التاريخية الجديدة التي تطمح أن تلعب فيها دوراً أكبر بكثير من دورها في المرحلة الأطلسية (الناتو)، والتحالف التبعي مع أميركا.
صحيح أن قرار الانسحاب الأميركي من سوريا يدخل في سياق إستراتيجية دونالد ترمب بتقليص المصاريف التي تنفقها أميركا على قواعدها العسكرية الخارجية، فضلاً عن أهميتها الانتخابية القادمة بالنسبة إلى ترمب للدورة الثانية، وهو ما يؤكده قراره اللاحق فوراً بتقليص التواجد العسكري في أفغانستان. فموضوع العودة إلى الرئاسة في الدورة الثانية بالنسبة إلى ترمب واحدٌ من أهم الدوافع وراء قراراته السياسية.
على أن المشكلة في فهم ما وراء قرار ترمب تكمن في تحديه لأهم معاونيه من أركان إدارته ولا سيما ماتيس، وبومبيو، وبولتون.وهؤلاء يعارضون القرار، وقد ذهب وزير الدفاع ماتيس إلى تقديم استقالته فوراً، أما الحجة الرئيسية لهؤلاء فتقوم على ضرورة التواجد العسكري في سوريا للعب دور رئيس في أي حلٍّ قادم للأزمة السورية، كما المساومة على الانسحاب الأميركي مقابل “الانسحاب الإيراني” بما يشمل حزب الله والحرس الثوري وأي متطوعين.
هذه النقطة الأخيرة هي ما يشدّد عليها بولتون أكثر من الجميع؛ بسبب تماهيه مع نتنياهو، وما يعتبره مصلحة الكيان الصهيوني بالدرجة الأولى، وهذه هي النقطة التي تركت نتنياهو يضرب أخماساً بأسداسٍ عندما بُلِّغ بالقرار قبل خمس دقائق من إعلانه.
فالتخلي عن هذه “الورقة” -كما يقدّرون وبالمجان- شكل بالنسبة إلى بولتون، ومن ورائه نتنياهو، ضربة قد تدفعه إلى الاستقالة إن لم “تبتلع”، وذهبت بالنسبة إلى نتنياهو إلى مأزق كبير في معركته الجارية مع إيران والقيادة السورية، حول زرع الصواريخ في سوريا.
وبعد، فهذا القرار -قرار ترمب بسحب القوات العسكرية الأميركية من سوريا- وبالرغم من أنه في المصلحة الأميركية باتجاه إنقاذ العلاقات الأميركية-التركية من التدهور، فإنه سيزيد من ضَعف إدارة الرئيس ترمب، وهو ما سوف ينعكس سلباً على سياسات الكيان الصهيوني، الذي سوف يزاد ضَعفاً ويتعمق مأزقه أكثر من خلال مراهنته على هذا الرئيس الأميركي.
والفائدة هنا يمكن أن تعود على كل من يُحسن الإفادة منها، لا سيما الفلسطينيين في قطاع غزة، وكل من يهديهم الله؛ ليتحدوا في القدس والضفة الغربية، وليطلقوها انتفاضة شعبية شاملة لدحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات بلا قيدٍ أو شرط.
فهذا التغيير الجديد في ميزان القوى يؤكد -مرة أخرى- أنه بالإمكان إنزال هزيمة بحكومة نتنياهو كما أنزلت بسابقيه من قبل في فرض الانسحاب بلا قيدٍ أو شرطٍ من جنوب لبنان وقطاع غزة، وهو ما يتيح، موضوعيّاً، إذا ما تحقق، فُرصاً لمن يريدون إقامة الدولة الفلسطينية، كما يتيح لمن يريدون المُضي إلى التحرير الكامل من النهر إلى البحر.