سورية وطوق الاستنزاف
غالب قنديل
يجتاز الحدث السوري مفارقة لافتة بعد ردع التدخلات الصهيونية وتثبيت معادلة قوية وقاهرة في وجه العربدة الصهيونية بينما ينشط حلف العدوان لتطوير حلقة الاستنزاف في الشرق والشمال عن طريق الجماعات المسلحة المدعومة من الحليفين اللدودين الولايات المتحدة وتركيا ورغم التباينات الظاهرة بينهما وبين الميليشيات التي يحتضنها كل منهما فالحصيلة هي شراكتهما في استنزاف الدولة الوطنية السورية سياسيا ومعنويا وعسكريا واقتصاديا وعرقلة سيرها إلى تحقيق هدفها المعلن باستعادة سيادتها على كامل التراب الوطني.
لا يخفي الاحتلال الأميركي من خلال مفوضه السياسي جميس جيفري رغبته بتأمين تمويل سعودي قطري لتثبيت الجيب الذي يحتله في الشرق السوري وتحويله إلى معقل للجماعات السياسية وشبه العسكرية المعادية للدولة السورية وهي خطة تتلاقى مع مشروع أردوغان المصرح به لاقتطاع منطقة من الشمال السوري يدفع إليها الجماعات الأخوانية المسلحة التي تدعمها المخابرات التركية منذ انطلاق العدوان على سورية ليجعل منها شريط حماية ونفوذ لتركيا ويراهن الجانبان على نقل جموع من النازحين إلى هذين الجيبين.
التناقض بين ركائز الاحتلالين يمنع بلورة رؤية مشتركة لاستعصاء الجمع بين الجماعات الكردية المرتبطة بالمحتل الأميركي وتركيا وعملائها لأن انقرة تعتبر أي وجود كردي مسلح خطرا على أمنها القومي وهي تعتقد بوجوب قيام شريط على امتداد الحدود مع سورية لمنع التواصل بين القوى الكردية في سورية وتركيا وبالتالي تحاشي تحول البؤرة القائمة في الشرق السوري إلى مرتكز يمد مقاتلي حزب العمال الكردستاني في العمق التركي بالدعم والمساندة وقد سبق أن اشتكت أنقرة لواشنطن من تسرب أسلحة أميركية سلمت لوحدات الحماية في سورية إلى العمق التركي وظهرت في أيدي مقاتلي حزب العمال.
لطالما أبدى أردوغان تجاوبا مع فكرة أن يكون “الجار الكردي” في سورية من طينة الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي تربطه علاقة تاريخية بتركيا ومخابراتها أسوة بعلاقاته الأميركية والصهيونية القديمة وقد فشلت هذه المحاولة منذ البداية ولا يبدي الحكم التركي اطمئنانا إلى نجاح الولايات المتحدة بشبك جناح حزب العمال في سورية والاستحواذ على قراره السياسي بفعل ما تدركه المخابرات التركية عن كون معظم الجماعات الكردية المسلحة في سورية هي في نسيجها الفعلي نتاج هجرات متلاحقة من الأرياف الكردية التركية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين وبالتالي صعوبة فصلها عن جذورها.
بالتنصل والمماطلة يحول الجانب التركي اتفاق بوتين أردوغان حول إدلب إلى تغطية صارخة لحلقة استنزاف ضد الدولة السورية وقواتها المسلحة ويبدو واضحا من خلال الأحداث أن الجماعات المرتبطة بالمخابرات التركية على الأرض السورية تعاود نشاطها الاستنزافي من أرياف حماه وحلب وإدلب وهذا ما يضغط على الدولة السورية ويعيق خطط نهوضها الاقتصادي المرتبطة حكما ببسط سيادة الدولة ومؤسساتها في جميع تلك المناطق التي يستمر فيها الشلل الحكومي والخدمي نتيجة ما تثيره تركيا وعملاؤها.
ما هي الغاية السياسية من الاستنزاف الأميركي والتركي المنظم الذي يلاقي الموقف العدواني الأوروبي الذي اعترض الخطة الروسية السورية لعودة النازحين كما أفصح وزير خارجية الفاتيكان حرفيا وباللغة التي استعملها كل من الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية بعد لقاء القمة مع أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن ربط تسهيل عودة النازحين السوريين بما يسمى الحل السياسي وهو ما ليس بعيدا عن محاولات التدخل المتكررة في تشكيل اللجنة الدستورية.
تريد الولايات المتحدة ودول الغرب ومن خلفها دول العدوان مجتمعة أن تحجز مقاعد لعملائها في مستقبل سورية ومن هذا السياق نفسه تسعى تركيا كما رغبت دائما لفرض تنظيم الأخوان شريكا في مستقبل الدولة السورية والاستنزاف الميداني ليس سوى أداة للي ذراع الدولة الوطنية السورية وحلفائها بقصد إرغامهم على الرضوخ وتقديم التنازلات السياسية التي تحقق الغاية المنشودة فتضم هياكل الدولة السورية عناصر ورموزا من عملاء الولايات المتحدة وسائر دول الغرب ومن عملاء تركيا وقطر والسعودية وهذا مايسمح بإخضاع السلطة السياسية المستقبلية في سورية لتوازنات المساكنة التي تحد من النهج الاستقلالي المقاوم والمناهض للهيمنة كما يجري راهنا في لبنان والعراق كنتيجة للتوازنات السياسية الداخلية وهذا ما يجب أن يدركه بقوة الحليفان الروسي والإيراني في خلفية النقاش والحوار حول المستقبل السوري.
تتحصن الدولة السورية بثوابتها وبرؤيتها السياسية في مفاوضات أستانة ولذلك تم تصعيد الاستنزاف عشية انعقاد المؤتمر الحالي من خلال قصف حلب بالغازات السامة وكان الرد الروسي السوري سريعا في الميدان لكنه ظل موضعيا بحصره في مصدر القذائف السامة ولم يتحول إلى عملية حاسمة في إدلب يمتلك الجيش العربي السوري القدرة والجاهزية المطلوبة لإتمامها لكن قيادته تفضل لاعتبارات سياسية ولوجستية ان تكون منسقة مع الحلفاء خصوصا مع الشريك الروسي ولإعطاء الفرص الكافية لموسكو وطهران لاستنفاذ المهل المعطاة نظريا لتنفيذ أنقرة تعهداتها السابقة منذ اتفاق سوتشي المعلق.
تطرح التحديات الحاجة إلى بلورة خيارات ومبادرات تكسر حلقة الاستنزاف وسيبقى في طليعتها ارتقاب تصاعد عمليات المقاومة شرقي الفرات لاستنزاف الاحتلال الأميركي الذي لا يرغمه على الرحيل سوى تكبده خسائر مادية وبشرية في وحداته المقاتلة وليس فحسب في قشرة العملاء التي يحتمي بها.
تبقى كلمة هي أن التخلص من الاحتلال الأميركي والتركي في سورية هو حاجة وطنية وقومية لجميع انصار التحرر والاستقلال في البلاد العربية والمنطقة برمتها ولاسيما في لبنان وفلسطين والعراق وليس في سورية وحدها فهل يظهر المبادرون؟