بقلم ناصر قنديل

صراعات المخابرات والرئاسة في واشنطن: نيكسون وترامب… والسعودية مجدداً: ناصر قنديل

لا يحتاج تفسير التسريب الرسمي لتقرير وكالة المخابرات الأميركية لوسائل الإعلام وقبلها توزيعه على زعماء الكونغرس إلى كثير تحليل، فذلك يحدث بوجود شرطين متلازمين، وجود قضية تتصل بإعادة رسم الاستراتيجيات على مستوى عالٍ من الخطورة، وتمنع الرئيس عن الأخذ برأي المخابرات، لتبدأ مواجهة بينهما تستعمل فيها كل الأسلحة، بما فيها تصنيع ملفات للرئيس وسوقه للمحكمة أو لمواجهة خطر العزل في الكونغرس. وهذا ما حصل مع الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، وما يتهدّد اليوم الرئيس دونالد ترامب .

لم يصدق أحد في العالم أن استقالة نيكسون استباقاً لمواجهة خطر العزل تمت على خلفية فضيحة ووتر غيت التي تتصل بتستر الرئيس على التنصت على خصومه واتهامه بإعاقة العمل القضائي. فالفضيحة ذاتها لم تكن لتقع لولا التقارير المخابراتية الموثقة، لاستعمالها في لحظة كهذه، يومها كان سجلّ نيكسون ووزير خارجيته هنري كيسنجر مليئاً بالإنجازات التي نظر إليها الكثير من صقور المؤسسات الأميركية كهزائم، وفي مقدمتها الانسحاب من فييتنام والتفاهم على الحد من الأسلحة الاستراتيجية مع الاتحاد السوفياتي وتطبيع العلاقات مع الصين، والإمساك بمفاصل الصراع في الشرق الأوسط بعد حرب تشرين عام 1973 بمشاريع للتسويات كان أهمها فك الاشتباك على جبهة الجولان عام 1974، وبعد اختبار مخاطر استخدام سلاح النفط مجدداً، وما يوصف بإنجازات نيكسون وكيسنجر في أميركا اليوم جاء بعد اختباره لخيارات المواجهة وزجّه بعشرات الآلاف من الجنود الأميركيين في فييتنام، واكتشافه بمشورة كيسنجر محدودية قدرة القوة على رسم السياسات، ووضع يده مع معاونه كيسينجر على ما يمكن أن يترتب على العنجهية الإسرائيلية في ضوء حرب تشرين وما أظهرته القدرات التي أظهرتها الجيوش العربية فيها، والذهاب إلى البحث عن تسوية تاريخية برأي واشنطن تستدعي الضغط على «إسرائيل» لمفهوم مختلف عن السلام.

كانت المخابرات قد أتمّت بالتعاون مع «إسرائيل» الإعداد لزيارة الرئيس المصري أنور السادات إلى القدس، وأتمّت السيطرة على القرار السعودي السياسي والنفطي مع صعود مرحلة ولي العهد الجديد فهد بن عبد العزيز، وصارت إطاحة نيكسون وكيسنجر طريقا لمواجهة جديدة، ترجمت في أفغانستان وكامب ديفيد وتخطيط حرب الأخوان المسلمين وتفجير الحرب في لبنان بوجه سورية، تمهيداً لغزو «إسرائيل» الذي تم تباعاً في العام 1978 ثم في العام 1982. وكان محور اللعبة التي تديرها المخابرات ما عرف لاحقاً بالحقبة السعودية التي آن الأوان لها أن تبدأ، وما يبدو اليوم من مؤشرات مرافقة للصراع بين المخابرات والرئاسة يبدو معكوساً لجهة اليقين بأن الحقبة السعودية آن لها أن تنتهي، وأن الخط التراجعي في الحروب التي خاضتها واشنطن، وما ينتج عنه من تقدم في مكانة روسيا دوليا وتعزيز مكانة إيران إقليمياً، بات فوق قدرة الحليفين اللذين تبقيا لواشنطن في المنطقة، إسرائيل العاجزة والمردوعة والسعودية المتآكلة والتي تغرق في الفشل، وقد عجزت عن تحقيق تعهدها بضمان الشريك الفلسطيني في صفقة القرن.

في الزمن المتبقي من ولاية الرئيس ترامب يبدو الصراع مفتوحاً، تحت عنوان رسم الاستراتيجية الجديدة، بعد سقوط صفقة القرن، وتعافي سورية وتعاظم مكانة روسيا وصمود إيران، ويبدو ترامب الباحث عن تسويات منتصف الطريق كوقف الحرب في اليمن ساعياً للتخفف من الأعباء وهو يدرك أنه وهو يقول بأن التمسك بالحكم السعودي شرط لخوض المواجهة مع إيران أن إيران هي الرابح الأول من وقف حرب اليمن، كما يدرك وهو يقول إن السعودية ضمان لعدم ترحيل «إسرائيل»، أن وقف حرب اليمن يزيد قوة محور المقاومة صاحب مشروع الترحيل، بينما تدرك المخابرات أن تعديل المكانة السعودية وتقاسم ما تمثله سياسياً واقتصادياً مع شركاء جدد منهم روسيا وتركيا وإيران، يستدعي تخريب مساعي ترامب لتسويات منتصف الطريق، فيتم التصعيد في أوكرانيا وسورية بإشارات مخابراتية متزامنة وواضحة.

الأكيد أن الاعتراف بالحقائق التي بشر بها تقرير بايكر هاملتون قبل اثنتي عشرة سنة، يجمع في نهاية الطريق ترامب والمخابرات، لكنهما يفترقان حول من يدفع ثمن التسويات، فترامب يسعى لحماية السعودية من التحول إلى غنيمة العصر، وحماية القيادة الحاكمة في كيان الاحتلال والسعي الإسرائيلي للتصعيد، ويسعى للبحث عن تسويات منتصف الطريق في سورية والعراق ومع إيران وروسيا، بينما يبدو للمخابرات أن نهاية الزمن السعودي سيكون كافياً لروسيا وإيران وتركيا لصفقة قرن أخرى.

– في هذه المرحلة تطغى الفوضى السياسية والأمنية، ويعمّ ضياع الوكلاء والعملاء في معرفة أي التحالفات يقيمون وأي الخطابات يتبنّون، ويصير عدم الانشغال بتفاصيل الصراعات الجانبية بين حلفاء واشنطن، هو الأصل، شرط التفرغ لفرض الوقائع في الجغرافيا والوقائع السياسية الثابتة. فالمركب الذي يضم جماعة أميركا في المنطقة بلا ربان تائه، وهذه مناسبة لتثبيت الوقائع الجديدة التي كلفت من الدماء الكثير، أهم من تضييع الوقت بانتظار معرفة لمن ستكون الغلبة بين صفوف صناع القرار في واشنطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى