مقالات مختارة

هل السعودية في مرحلة أفول الدور: د. وفيق إبراهيم

 

تلعب السعودية منذ 1945 في ثلاثة ميادين متعدّدة تشكل ثقلها العالمي الذي تتباهى به على كل دول الإقليم: الأول هو النفط الغزير الذي أصب حت تبيع نحو 11 مليون برميل يومياً، لا تنفق من أثمانها داخل المملكة الا بالحد الأدنى الذي ينعش دولة من القرون الوسطى معيقاً بذلك تطوّرها نحو القرن الحادي والعشرين .

لكنها تدفع عمولات وصفقات للتغطية الأميركية والأوروبية. وتضع الباقي في المصارف الأميركية والأوروبية وموازنات دولها لسدّ عجزها. أما الجانب الثاني من قوتها فديني ناتج من إدارتها للحرمين الشريفين وموسم الحج، حيث يفد إليها سنوياً ملايين الحجاج.

إن العلاقة بين هاتين القوتين الاقتصادية والدينية تمنح المملكة دوراً سياسياً ضخماً تؤديه بكونها أكبر دولة في الخليج فتلعب في الملاعب العربية والإقليمية والدولية.

حتى أن موسم الحج كان بالنسبة إليها مسألة دينية بأهميات سياسية وأخيراً اقتصادية وبات اليوم مركز قوة سياسية واقتصادية بجعل ركناً من أركان الإسلام في الموقع الأخير.

هذا ما أهّل آل سعود للسيطرة على جزء صغير من العالم الإسلامي وأفريقيا بضخ المساعدات المالية واستجلاب العمالة حسب ولاءات الدول المصدرة لها.

وهذا ما سمح للسعودية بالتصدي للخط القومي العربي حتى اتاحت للأميركيين والإسرائيليين فرصة القضاء على عبد الناصر وبعث العراق..

وتحاول القضاء على سورية عبثاً منذ عقد تقريباً. لكن السعودية لم تؤدِ دوراً بقدر لعبها دور الجاذب للدول ورصفها داخل الصندوق الأميركي وبالتالي الإسرائيلي لأنها لا تمتلك من مقومات الريادية إلا القوة الاقتصادية وقرارات دينية للإسلام لا يقبضها أحد لأنها تمجد ولي الأمر وتشجع بغموض على عبادته، فيما يتوجب على الدولة الجاذبة أن تجمع بين القوى العسكرية والاقتصادية والثقافية والعلمية المربوطة بالحداثة.

الخطأ الأول الذي اقترفه آل سعود في بداية هذا القرن هو قبولهم بأداء دور رأس الحربة الأميركية في محاولات تفجير دول منطقتها العربية في العراق وسورية واليمن ومصر ودول شمال أفريقيا… ومقابل توليته ولاية العهد حمل محمد بن سلمان المشروع على كتفيه وأموال مملكة أبيه سلمان فخسر في سورية والعراق وانفضحت جرائمه في اليمن التي أبادت ثلاثين الفاً من المدنيين ولم يكتفِ بذلك.. فضرب كل أجنحة عائلته آل سعود. ما منح الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرصة الاستثمار في سياسة ولي العهد الجديد.. سالباً المملكة وجوارها الخليجي نحو 800 مليار دولار في صفقات سياسية لا أثر للاقتصاد فيها مستغلاً طموح إبن سلمان السعودي وإبن زايد الإماراتي وخوف دولة قطر من الاتجاهات التوسعية لهذين الأميرين، لا بأس هنا من التذكير بأن ترامب فتح جبهات صدام مع أوروبا واليابان والصين وروسيا وكندا والمكسيك وتركيا. والسعودية لأسباب اقتصادية، على حد زعمه.

ولم يخجل من الإساءة إليها علناً بمطالبتها بتسديد بلاده أثمان حمايتها لهم. إلا أنه بالغ في الهجوم والانتقاد على السعودية والخليج. وكان بذلك يعبر عن تراجع امبراطورية بلاده بدءاً من الشرق الأوسط حيث النفط والغاز والاستهلاك. ويريد التعويض لوقف التقهقر بأي وسيلة ومنع روسيا من تدمير نظام أحادية القطب.

لكن حلفاء واشنطن استوعبوا بسرعة أن هناك تغييراً في مرتكزات القوة في العالم.. فكمنوا معتصمين بالصبر حيناً ولاجئين إلى المشادات مع ترامب حيناً آخر. إلى أن وفّر لهم ولي العهد السعودي فرصة محاولات تحسين المراتب… بتغطيته لجريمة وحشية أقرّ رجال أمنه فيها باغتيال الإعلامي جمال الخاشقجي في قنصلية السعودية في اسطنبول التركية. فحلّت الفرصة لتركيا وأوروبا كليلة القدر المباغتة بادئين بهجمات إعلامية مركزة على هذه الجريمة حتى أنّهم تجرأوا وللمرة الأولى في تاريخ السعودية على تحميل مسؤوليتها لمحمد بن سلمان.. أما أنقرة التي جرت الجريمة ضمن سيادة دولتها في القنصلية السعودية ففتحت تحقيقاً متواصلاً يشبه مسلسلاً تركياً من مئة حلقة متتابعة يرتفع التشويق فيها مع ازدياد رقم الحلقة.. وكذلك فعلت واشنطن إنما في إطار الفصل بين قوى أمنية ارتكبت الجريمة وطبقة سياسية ليس أكيداً أنها أمرت بالقتل وفصول المسلسل متواصلة وسط محاولات مفضوحة للاستثمار التركي والأميركي يصل حيناً إلى درجة الصدام المكبوت.

للتوضيح فإن أسباب التجرؤ على السعودية التي سبق وقتلت عشرات الآلاف من السعوديين والخليجيين والمتهمة بالتسبب بقتل الملايين في سورية والعراق ولم ينتقدها أحد: السبب إذاً هو تراجع الدول الأميركي في الشرق الأوسط وخسارة محمد بن سلمان مشاريعه في المشرق، بما فيها اليمن الضعيف الذي يقاوم جيشين حديثين من السعودية والإمارات مدججين بأفتك أنواع الأسلحة، يقاوم بالشجاعة والصبر وأسلحة متواضعة تصبح فتاكة مع الشجعان فقط.

هذا ما جعل من اغتيال الخاشقجي فرصة لمحاولات تركية لتخليص قطر من الحصار وتغطية أدوارها الاستعمارية في العراق وسورية، متيحاً للبيت الأبيض التبرؤ من الهزائم في الشرق الأوسط وتحميل وزرها لمحمد بن سلمان

هناك مشكلة تصيب الأميركيين بالضيق.. كيف يمكن تبرئة آل سعود عندما يكون ولي عهدهم متهماً أساسياً وكيف يمكن تبرئة ولي العهد عندما يكون مكتب الأمير متورطاً مباشرة حتى عنقه القحطاني والعسيري بما يوحي أن أحداً لن يصدّق أن 15 رجل أمن يحملون مناشير وأجهزة تقطيع حديثة يركبون طائرة واحدة خاصة من السعودية الى اسطنبول ويدخلون القنصلية السعودية ليقتلوا الخاشقجي ويقطعون جثته إرباً إرباً.

فكيف يمكن بعد ذلك الضحك على الدول والرأي العام والزعم أن حقنة مخدرة قتلت الخاشقجي عن طريق الخطأ. وإذا كان الأمر صحيحاً فلماذا قطعوه بمناشير جلبوها معهم من السعودية.

أما الإضافة البسيطة فهي الارتباك الذي أصاب الحكم السعودي بتقديمه عشر روايات مختلفة كل يومين أو ثلاثة. في حين أن قنصلهم في اسطنبول الذي شاهد الجريمة بأمّ عينه عاد الى الرياض وأخبرهم بكل ما جرى.. فلماذا ينكرون؟

هذه الالتباسات تحشر واشنطن بدورها في زاوية ضيقة، لأنها تريد عدم المسّ بآل سعود كملكية تؤمّن المصالح الأميركية منذ 1945. ولا تستطيع إدانة محمد بن سلمان بسهولة، لأنها تصيب الملك سلمان وقد تتسبّب بعودة أجنحة آل سعود إلى التقاتل، وبالتالي عدم الاستقرار.

لذلك يبذل ترامب جهوداً لإسكات الاحتجاجات العالمية وتلبيتها وعدم المساس بآل سعود وتأمين استمرارية المصالح الأميركية.

إن هذه المتاهة مهما كانت نتائجها لا بدّ أن تؤثر سلباً على الدور السعودي داخلياً وإقليمياً وعالمياً، خصوصاً على مستوى دور رأس الحربة الأميركية في العالم الإسلامي.

ولن يتمكّن هذا الدور أيضاً من المحافظة على قواه في المشرق العربي ولا العالم الإسلامي حتى ولو ركب تحالفاً عريضاً مع «إسرائيل» لإرضاء البيت الأبيض.

فماذا يفعل الأميركيون لإعادة التوازن للدور السعودي؟

قد يقوم السعوديون بضخّ كميات أكبر من المال في العالم الإسلامي وعقد صفقات مع أوروبا وأميركا ومشاركة تركيا في قيادة العالم الإسلامي. فهل هذا ممكن؟ يحتاج الدور السعودي إلى عقود طويلة حتى يتمكّن من استرداد قوته القديمة، فتسنح الفرصة لصعود الدورين التركي والإيراني والروسي أيضاً.. ما يفتح المنطقة على صراعات ضمن حرب باردة قد تلجأ واشنطن فيها الى التعجيل بتأسيس الناتو المصري الإسرائيلي السعودي الأردني الخليجي وذلك لإعادة التوازن إلى منطقة بدأت موسكو ترسم فيها ملامح عودتها إلى النظام العالمي الجديد.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى