فلنخجل قليلا ولنراجع حساباتنا
غالب قنديل
عاشت بعض المناطق اللبنانية في العتمة يوم أمس لساعتين نتيجة إضراب نفذه أصحاب المولدات في سياق نزاعهم مع وزارة الاقتصاد واعتراضهم على قرارها الملزم بتركيب عدادات بمواصفات معينة وبغض النظر عن تفاصيل معركة البيانات المحتدمة بين الطرفين فالحصيلة ان آلاف العائلات في مناطق متعددة عادت إلى الشموع مع وقف المولدات على توقيت التقنين الكهربائي …
عادت الشموع للعمل المنزلي ولسهرات العائلات ولدراسة الأطفال والشباب لتسترجع مشاهدا عايشتها اجيال لبنانية متعددة قبل مشروع كهربة لبنان الذي ولد في العهد الشهابي وعادت تلك اللوحات إلى كل مكان من لبنان في زمن الحرب المدمرة التي نشأت على ضفافها ظاهرة المولدات وكان أصحابها يتقاسمون مع مالكي السنترالات الخاصة دور”المنجد” بتأمين خدمات عامة كانت تقدمها مؤسسات رسمية عطلتها الحرب وتوزعتها سلطات الأمر الواقع عبر خطوط التماس فتراكمت كمية متشابكة من المصالح التي تشكل قوة مضادة موضوعيا وذاتيا لدور الدولة في الخدمة والرعاية.
لشدة القسوة التي عايشها اللبنانيون لم يعودوا آبهين بتفاصيل الخلافات وبالجدل التقني في الموضوع وما يعنيهم هو اولوية الحصول على التيار الكهربائي بدلا من العودة القهقرى عقودا إلى الوراء ولكن تعنيهم بالتأكيد كلفة تلك الخدمة في ظل تدهور قدرتهم الشرائية.
في ظل اهتراء المؤسسات العامة المسؤولة عن الخدمات العامة تسود نزعة شعبية من نوع “حلوها بقرد وحارس المهم نخلص ” والشكوك في التباس المصالح تطال الجميع فثمة أسئلة عن مصدر العدادات ووكلاء البيع وعن سعرها وكلفتها ومصدرها وإلى جانبها سؤال متواصل عن تعثر ترميم طاقة مؤسسة كهرباء لبنان طيلة ربع قرن صرفت خلاله عشرات مليارات الدولارات دون جدوى وخلف كل ذلك سؤال اخطر عن وجود خطة لتدمير المرفق العام وبيعه إما دفعة واحدة لشركة اجنبية وكانت كهرباء فرنسا صاحبة العرض سابقا وهي مستشار دائم لوزارة الطاقة منذ الطائف او تقاسم هذا المرفق وتوزيعه نتفا للشركات المحلية على قياس تلزيم الجباية الكهربائية وجمع النفايات في المناطق.
إنها المشورة الأميركية منذ حرب السنتين وهي مستمرة حول الخصخصة بتوزيع مؤسسات الدولة على ما كان يسمى قوى الامر الواقع الطائفية وشركاتها في المناطق وينهض مؤخرا في الإعلام نموذج لترويج هذه الوصفة هو شركة كهرباء زحلة بينما توجهات تنظيم القطاع المتداولة تضمنت خصخصة الإنتاج وتشريع شراء الطاقة من شركات خاصة وإذا كان التوجه الفعلي هو تنظيم قطاع المولدات فما المانع من شموله بتدبير شراء الخدمة منه عبر البلديات حسما للجدل ما دام النظام السياسي مصمما على تعطيل الحلول الجذرية التي عرضتها دول صديقة مثل إيران بإنشاء محطات توليد ضخمة وتزويدها بالغاز او تلك التي يمكن الاتفاق عليها مع الصين أو روسيا وتكريس قواعد الخدمة العامة التي تؤديها مؤسسات عامة هي ملك الشعب اللبناني بدلا من التقاسم الذي يسيل له لعاب النافذين في سائر قوى السلطة السياسية ومكوناتها المختلفة فمؤسسة كهرباء لبنان كانت في ما مضى نموذجا للتنظيم والإتقان والكفاءة وثمة قوى عملت على تحويلها إلى منهبة يجري تقاسم أشلائها وتكفي سيرة صفقات الفيول لمن يرغب بالمعاينة.
ليس تخريب القطاع العام المنتج لبيعه ميزة لبنانية ففي جميع الدول التي اختبرت نيولبرالية تاتشر وريغان قبل ثلاثين عاما دارت الأحداث على هذا النحو مع فارق ان القطاع العام المنتج في تلك الدول المتقدمة كان يتضمن صناعات ضخمة أقلها مناجم الفحم الحجري والمعادن وسواها اما في بلد الأرز فالكلام يدورعن خصخصة خدمات عامة تقدمها الدولة ولا إنتاج او من يحزنون والمصيبة ان لهفة الناس على الحل بأي ثمن تجعلهم مسايرين لكل ما يتخذ من توجهات فقد بات خمود الرأي العام الوطني صمام امان لاجتهادات النظام السياسي الطائفي ولدروبه في تقاسم الريع.
لا حركة شعبية واعية أو حاضرة يمكن التعويل على دورها في تصحيح الأوضاع وانتشالنا من هذا الدرك الأسفل والحالة المخزية ولا رشاد سياسيا في المشهد القاتم يمكن الرهان على دوره في بلورة المخارج الإيجابية والعملية التي توفر للناس حاجة بديهية بكلفة مقبولة ومما يخجل ان يكون بلد صغير وبحاجات لا يذكر حجمها قياسا إلى جارة كسورية عاجزا عن حل معضلات الكهرباء بسبب احتشاد المصالح والشهوات المتعاكسة في عملية ريعية بائسة بينما تنهض الدولة السورية الجريحة بعد حرب مدمرة بمؤسساتها ومرافقها العامة وتؤمن خدمات شاملة لمواطنيها لدرجة ان الكهرباء سبقت الناس في العودة إلى المدن والبلدات التي حررها الجيش العربي السوري وعادت قبله الشبكات لتوفر الخدمة العامة كاملة للمواطنين فهل نتواضع ونخجل قليلا لنناقش بهدوء بعيدا عن حنق المصالح وشهوات أصحابها؟!