ثغرات أمام المحقق في قضية خاشقجي-منير شفيق
بالرغم من كل التسريبات والحقائق التي تم نشرها حول قضية قتل جمال خاشقجي، إلا أن هناك ثغرات من شأن إعادة التفكير بها أن يوصل إلى المتهم الأول بالقضية .
أول حقيقة مثبتة بعد قتل الصحفي خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، هي مشاركة ثمانية عشر موظفاً كبيراً ومتوسطاً وصغيراً؛ قدِموا من السعودية وقاموا بمهمة القتل. وهم الآن رهن التوقيف والتحقيق معهم من قبل السلطات السعودية.
إذا كانت هذه حقيقة، وهي فعلاً كذلك لأنها مؤكدة رسمياً من قِبَل كل من السعودية وتركيا، فكيف إذن أمكن أن يتجمع هذا العدد من القيادات والكوادر في طاقم الوظيفة الرسمية ليقوموا بمهمة موحدة في القنصلية السعودية في إسطنبول؟ وذلك بغض النظر عن طبيعة المهمة سواء أكانت محاورة الضحية أم العرض عليها العودة إلى السعودية أم تصفيتها نهائياً.
وإذا كان من الحقائق أيضاً أنهم تجمعوا وأتوا من مواقع وظيفية متعددة من أجهزة أمنية مختلفة، إذن فمن صاحب السلطة العليا الذي يستطيع أن يتصل بمسؤول كل جهاز ليرسل له كادراً محدداً للقيام بالمهمة؟
هذه النقطة لا جواب لها عند المحقق التركي، أو المحقق السعودي إلا من خلال استنطاق كل مسؤول عن كل موقع اختير منه واحد أو أكثر من بين الثمانية عشر متهماً، ممن التقوا في القنصلية في إسطنبول لـ “مقابلة” جمال خاشقجي.
وفي ذات السياق لنا أن نسأل: من أعطى توجيهات للقنصل حتى يستقبلهم في القنصلية، ويطلق يدهم لتنفيذ المهمة؟ وهذا بدوره يوجب أن يُحقَّق مع القنصل والسفير ووكيل وزارة الخارجية أو وزير الخارجية نفسه.
هذا البعد في قضية جمال خاشقجي لا بد أن يذهب إلى السلطة العليا التي هي وحدها من يمكنها أن تأتي بأعضاء هذا “الوفد” المتهم بقتل خاشقجي، والمتهم بما حدث لجثته بعد ذلك.
إن تشكيلة الوفد المكون من ثمانية عشر شخصاً وطريقة سفره والتعليمات التي أعطيت له، كلها مؤشرات يجب أن تجيب عن أهم سؤال في هذه القضية: من أعطى الأمر وأشرف على التنفيذ؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات يجب أن تسبق البحث فيما حدث داخل القنصلية، وذلك للتعرف على صاحب السلطة العليا الذي كان وراء الأمر بتنفيذ هذه العملية كلها.
البعد الثاني الذي بين يدي المحقق التركي هو المتعلق بمصير الجثة.وقد توصل في بيانه الرسمي الصادر في 31 أكتوبر 2018 إلى التبيان بأن القتل بدأ فوراً بالخنق (أي قطع النفس) ومرَّ بعد ذلك بعملية التقطيع. فيما يخص الخنق فهو لا يُعرف إلا بالصوت والصورة، أو باعتراف الجاني، والأدق من خلال الطبيب الشرعي حين تكون الجثة بين يديه.
ولكن ثمة ثغرة هنا تتعلق بالقتل فوراً دون المرور بفترة تحقيق وتعذيب بهدف الحصول على معلومات من خاشقجي. لأن هدف الحصول على معلومات إن سقط -من خلال إثبات القتل فوراً- تكن العملية كلها حماقة في حماقة، يصعب الأخذ بها وتفسيرها.لأن العملية كلها تصبح عملية اغتيال، وهذه عملية يمكن إنجازها من قِبَل أجهزة مخابرات بعيداً عن الضجة التي حدثت بالاستدراج إلى القنصلية، والإتيان بذلك العدد الكبير من المنفذين، وتحت آلات التصوير، والوقوع السهل في الجرم المشهود، بين أيدي دولة غير صديقة، وذلك منذ محاولة الانقلاب الفاشلة الأخيرة في تركيا، والتي أشير إلى مشاركة إماراتية-سعودية فيها.
إن التفسير الوحيد ربما لحدوث هذه العملية، بهذه الطريقة العلنية وبالجرم المشهود لا يستقيم إلا بالحاجة إلى معرفة مَن مِن الأمراء السعوديين يتآمر على ولي العهد في داخل المملكة أوخارجها. وهذا وحده هو الذي يفسر أن تقع في المكان والتفاصيل اللاحقة. طبعاً ربما التحقيق وانتزاع الاعترافات لا يحتاج إلى أكثر من نصف ساعة بالنسبة لشخصية مسالمة ليست من النوع الذي يحتمل التعذيب أكثر من دقائق ليسلّم كل ما عنده. فالمسألة لم تستغرق وقتاً طويلاً، إلا أنها لا يمكن أن تكون فوراً ويكون هدفها الوحيد القتل.
وحتى تقطيع الجثة، من غير المفهوم ما الحاجة إليه إذا لم يكن التعذيب قد بدأ فعلاً بقطع جزء منه وهو حي مثلاً. وذلك، ليتحقق الهدف المتعلق بسرعة انتزاع الاعتراف منه. ولكن في كل الأحوال لا تفسير للتقطيع إلا إذا كان الهدف إبادة الجثة، إبادة لا تُبقي منها أثراً. وهنا يتسرب خبر الإذابة بالأسيد.
على كل، فإن هذا البعد هو الأشد نكراً من القتل، فالتمثيل بالجسد أدى إلى مضاعفة نقمة الرأي العام، وجعل عملية لفلفة الموضوع، أو الهروب منه أو التخفيف من عواقبه صعبة للغاية.
وبالمناسبة، فإن التمثيل بعد القتل أو بأسلوب القتل، مورس في عالم الجريمة إما بحالات مرضية جنونية، وإما بسبب معاملة بالمثل، أو بسبب الترويع. أما إبادة الجثة وإخفاء معالمها؛ فهو نمط جديد يجب أن يسجَّل لمقترف هذه الجريمة، ويسمَّى باسمه.
قضية أين جثة جمال وماذا حدث لها، تعدَّت أن تكون لأسباب قانونية أو لتأكيد البينة بعد الاعتراف، فقد أصبحت قضية قائمة بذاتها في هذه الجريمة “الدولية” متعددة الأبعاد، والمتفاقمة في تطورها.
ومن هنا، ومما سبق، يبدو ألا مفر من أن يدفع المتهم الأول عن الجريمة الثمن، أو تدفع السعودية أثماناً باهظة سياسية ومالية لأمد طويل.