مقالات مختارة

واشنطن تنسحب من المعاهدة مع روسيا وعينها على الصين د.منذر سليمان

 

         أعلن الرئيس ترامب عن نية بلاده الانسحاب من معاهدة “القوات النووية متوسطة المدى،” المبرمة مع الاتحاد السوفياتي عام 1987، اتساقاً مع وعوده الانتخابية ووعود سلفه الرئيس اوباما التخلص من قيود معاهدات “الحرب الباردة” وإعادة تحديث الترسانة النووية الأميركية، مؤكداً مواصلة الولايات المتحدة “زيادة احتياطيها من الأسلحة النووية حتى تغير روسيا والصين سلوكهما .”

         الجانب المعلن في الإعلان الأميركي هو تصميم واشنطن على “التمدد شرقاً” ونشر مجموعة من الصواريخ الباليستية “متوسطة المدى” في مياه المحيط الهاديء لردع التطور النووي للصين. أما المضمر في “الاستراتيجية الأميركية،” ما بعد انتهاء الحرب الباردة، يتمحور حول سعيها الدؤوب لاستعادة هيبتها الدولية لعالم أحادي القطبية، من ناحية؛ ومن الناحية الأخرى التغاضي عن المتغيرات الإقليمية والدولية في ساحات الاشتباك الساخنة ثمرة لمنسوب المنافسة المتزايدة بين قوى عظمى متعددة تنبيء بنهاية عالم أحادي أو ثنائي الاقطاب.

         كما أن واشنطن تستغل قرارها بالانسحاب لتعزيز ادوات ضغطها وابتزازها للدول الاوروبية، في سياق ادامة صراعها مع موسكو، غير آبهة بتداعيات نشوب حرب جديدة مسرحها القارة الاوروبية. وتراهن أيضاً على أن انسحابها من المعاهدة وتحررها من قيودها كي تمضي بنشر منظومات إطلاق صواريخ تقليدية في المناطق الجغرافية القريبة (اليابان، استراليا، الفليبين وجزر غوام)، مما سيفرض على الصين زيادة انفاقاتها العسكرية لا سيما في تطوير نظم الدفاع الجوي عالية الكلفة لحماية منشآتها العسكرية المنتشرة على رقعة جغرافية واسعة.

         المعاهدة النووية المبرمة بين العظميين، 1987، لم تضم الصين أو قوى دولية صاعدة أخرى، كما انها لا تلزم الصين للامتثال بشروطها وهي التي وضعت نصب أعينها تطوير قواتها العسكرية كماً ونوعاً في العقدين الماضيين، وأضحت ترسانتها الصاروخية، في المديين القصير والمتوسط، مصدر قلق بالغ في واشنطن التي لا تكف عن الإشارة إلى “تهديد الصين” لمكانتها في آسيا فحسب، بل ولتمددها “الناعم” في مختلف أنحاء العالم على حساب الوجود الأميركي الصرف.

         في الاتفاقية تعهد الطرفان، السوفياتي والأميركي، بعدم “تصنيع أو أجراء تجارب أو نشر أي صواريخ باليستية أو مجنحة أو متوسطة، وتدمير كافة منظومات الصواريخ ومنصاتها التي يتراوح مداها المتوسط ما بين 1000 إلى 5500 كلم، ومداها القصير من بين 500 إلى 1000 كلم.”

         دأب طرفا المعاهدة على تبادل الاتهام بتطوير أسلحة تنتهك نصوص المعاهدة. واشنطن اتهمت موسكو بجملة اجراءات منها اختبار صاروخ باليستي من طراز SSC-8 عام 2008، وصاروخ باليستي محمول عابر للقارات من طراز SS-25، والأحدث RS-26. وانضمت قيادة حلف الناتو مؤخراً لاتهام موسكو بتطوير منظومة صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية من طراز نوفاتور 9M729.

         بالمقابل، وجهت روسيا اتهامات للولايات المتحدة بانتهاك المعاهدة لإقامتها قواعد عسكرية قريبة من الحدود الروسية ونشرها منصات قادرة على إطلاق صواريخ باليستية من طراز MK-41 من أراضي رومانيا وبولندا؛ فضلاً عن تطويرها للطائرات المسيّرة من طراز MQ-9.

         تضافرت أيضاً نداءات متواصلة للقادة العسكريين من كلا البلدين للتخلي عن المعاهدة المبرمة، كل لأسبابه الخاصة، والتي أسفرت عن تدمير موسكو 1792 صاروخاً باليستياً ومجنحاً، بينما دمرت واشنطن 859 صاروخاً، في أيار/مايو 1991.

         إعلان الرئيس ترامب لم يرافقه ردود فعل غاضبة في الدوائر الأميركية المختلفة، رغم توصيف البعض لها بأنها “خطأ،” بل سعت النخب الفكرية لتهيئة الأجواء الداخلية بتصعيد خطاب التوتر والعداء لكل من روسيا والصين، وتقبل الانفاق العسكري الهائل في المرحلة المقبلة.

         أحد أبرز مراكز الأبحاث، معهد بروكينغز حث الرئيس ترامب على “.. إمهال روسيا فرصة زمنية للامتثال لنصوص المعاهدة لا تتعدى السنة والطلب من الصين الانضمام إليها؛ كي لا تتحمل الولايات المتحدة المسؤولية وحدها.” جاء ذلك بموازاة تصريحات ترامب، 22 اكتوبر الجاري، بأنه “ينبغي على الصين الانضمام للمعاهدة؛ وضرورة أن تتوقف كل الأطراف عن مساعي تطوير أسلحة نووية متوسطة المدى.”

         ونقلت شبكة سي ان ان الأميركية للتلفزة، 22 اكتوبر، عن المسؤولين في بيجينغ قولهم انه من “الخطأ أن تشير الولايات المتحدة للصين كسبب لانسحابها من المعاهدة مع موسكو؛” لا سيما عند الأخذ بعين الاعتبار انضمام قوى نووية جديدة على المشهد الدولي كانت غائبة زمن توقيع المعاهدة.

         استدراج واشنطن لبيجينغ في المعادلة النووية لم يعد محط تكهنات خاصة بعد تواصل اتهاماتها للصين “بتجاهل المعاهدات الدولية الناظمة للبحار” وعزم الأخيرة بسط سيادتها على منطقة بحر الصين الجنوبي وانشاء قواعد عسكرية اصطناعية في مياهه.

         في شهادة أدلى بها قائد القوات الأميركية في المحيط الهاديء، الأدميرال هاري هاريس، العام الماضي أمام للجان الكونغرس، حذر فيها من أن نحو “95% من ترسانة جيش التحرير الشعبي الصاروخية تندرج تحت مديات 500 إلى 5500 كلم” المنصوص عليها في المعاهدة المذكورة. وأضاف أن من شأن تلك القدرات الصاروخية توفير الترسانة التقليدية الصينية ميزة ردع مجانية بتهديدها القواعد والسفن الأميركية في المحيط الهاديء وحرمانها الاقتراب من سواحلها.

         ومضى هاريس محذراً بالزعم أن الترسانة الصاروخية الصينية لديها أكثر من 2،000 صاروخ باليستي ومجنح “.. وهي ميزة هامة نظرأ لأن الولايات المتحدة لا يتوفر لديها قدرات مماثلة نتيجة التزامها بمعاهدة القوات النووية للمديات المتوسطة مع روسيا.”

         وأشد ما تخشاه القيادات العسكرية الأميركية من تنامي القدرات العسكرية للصين، لا سيما في مجال الأسلحة التقليدية، هو تآكل قدراتها بتوفير التزاماتها الأمنية لحماية حلفائها في منطقة الشرق الأقصى، وما قد يترتب عليه من تحولات جيواستراتيجية.

         ووفق شهادة الأدميرال الأميركي فإن القدرات الأميركية الراهنة محورها القصف بعيد المدى، براً وبحراً وجواً، لكن كلفتها الإجمالية باهظة مقارنة بما سيتوفر لها من ميزات إضافية عند تطوير تواجدها العسكري وأسلحتها التقليدية في منطقة المحيط الهاديء.

         ومثالاً على الأكلاف العسكرية المرتفعة تبلغ كلفة انتاج مدمرة بحرية من طراز DDG-51 نحو 1.8 مليار دولار، يستغرق بناؤها بضع سنوات، وعلى متنها 96 نظام إطلاق صواريخ بعضها من طراز توماهوك؛ وينبغي توفر ثلاث مدمرات من هذا الطراز في الترسانة العسكرية كي تتمكن القيادة الأميركية من نشر احداها في بحر الصين الجنوبي بشكل دائم.

         ترمي الولايات المتحدة بتعزيز وجودها العسكري بالاسلحة التقليدية، بالقرب من الصين، الى إعادة ثقة حلفائها بها وزيادة مستويات التعاون معها، بل بيع منظومات أسلحتها للدفاعات الصاروخية لهؤلاء، خاصة في اليابان وتايوان والفليبين واستراليا وفييتنام، وتحميلهم بعض أعباء ادارة وتشغيل تلك المنظومات نيابة عن القوات الأميركية.

طرفا المعاهدة النووية، واشنطن وموسكو، سيلتقيان قريبا في باريس للاحتفال بمئوية نهاية الحرب العالمية الأولى، وستدرج الاتفاقية مرة اخرى على جدول اعمالهما لا سيما لتوفر دوافعهما الخاصة، وربما المتناقضة، لاستدراج الصين بالانضمام للمعاهدة او صيغة متطورة جديدة لكبح طموحاتها في القدرات الصاروخية. وبما أن الصين تعتبر عدم شمولها في المعاهدة إحدى أهم ميزات القوة لديها، مما سمح لها المضي قدماً بتطوير ترسانتها الصاروخية دون قيود دولية، فمن المستبعد ان تنحو بذلك الاتجاه في المدى المنظور.

لا يعوّل طرفي المعاهدة النووية على التوصل لاتفاق جديد يقيّد تطوير الاسلحة النووية، بل تشير الدلائل المتوفرة إلى توافقهما على التخلي الطوعي عنها، والمباشرة في توسيع قدراتهما الصاروخية في المديات المتوسطة التي تعتبر ساحة اشتباك وردع متبادلة بينهما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى