بقلم ناصر قنديل

من المتوسط إلى هرمز: محور متماسك: ناصر قنديل

كان من الطبيعي والمتوقّع أن تستنهض طفرة جنون الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعلى ما يمكن أن تفكر فيه الكيانات الحليفة لواشنطن، التي أصابها الإحباط من سياسة الانكفاء التي رافقت السنتين الأخيرتين من عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، فالفرصة قد لا تتكرّر بوجود رئيس أميركي يرفع سقوف المواقف إلى الأعلى، ويبدي عزماً على خوض المواجهات بلا حسابات. وثبات الرئيس نفسه قد لا يستمرّ وهو المتقلب المزاج والآراء، والمحاط بتناقضات حسابات مراكز القوى والقرار داخل البيئة الأميركية، لذلك كان على الذين يسعون لمواقف أميركية متشددة في المنطقة، خصوصاً السعودية و«إسرائيل»، الذهاب إلى أقصى الحدود في تظهير مصادر القدرة على تغيير المعادلات، لتشجيع الرئيس الأميركي على المضي قدماً من جهة، ولاستثمار أعلى عائد متاح من مواقفه التصعيدية من جهة أخرى .

بدا بوضوح أن الساحة الممتدة من واجهة البحر المتوسط التي تحتلها سورية ولبنان، ومن خلفهما العراق، وصولاً إلى إيران، ستشهد استثماراً غير مسبوق على ما تعتبره واشنطن وتل أبيب والرياض خواصرها الرخوة، أملاً بخلق وقائع جديدة تنتج توازنات جديدة. والرهان ليس على نصر حاسم، بل على موازين تفاوضية أفضل، تتيح تسوية رخوة يمكن التأسي على التلاعب بها وبنتائجها، بالعمل من داخل منظومتها، وهو ما لم يكن متاحاً في صبغ التسوية المعروضة من قبل، والتي تتضمّن مقداراً محدوداً من حفظ ماء الوجه تحت سقف المطالبة بالاعتراف بانتصارات محور المقاومة من جهة، وبتكريس المرجعية الروسية لهذا المدى الممتد من المتوسط إلى مضيق هرمز، وبمكانة إيرانية متقدّمة على سائر القوى الإقليمية الكبرى.

خمسة محاور شكلت عناوين مشاريع التغيير، ففي لبنان احتل الرهان على محاصرة حزب الله داخلياً الأولوية، سواء عبر ما سُمّي بالتسويات الرئاسية التي قامت على فك التحالف بين حزب الله والتيار الوطني الحر، عبر اجتذاب التيار ورئيسه الذي صار رئيساً للجمهورية نحو منطقة أبعد عن حزب الله بإغراء السلطة. وفي هذا السياق كانت مساهمة تفاهمات تيار المستقبل والقوات اللبنانية مع التيار الوطني الحر، ومن يعود لأدبيات التفاهمات على ألسنة أصحابها سيجد كلاماً صريحاً للمستقبل والقوات يتحدّث بوضوح عن هذا الرهان، الذي سقط بالنقاط مع احتجاز الرئيس سعد الحريري في السعودية ومطالبته بالخروج من التسوية الرئاسية، وسقط بالضربة القاضية بعد الانتخابات النيابية، وما ظهر من تصادم بين التيار وشريكيه في التسويات الرئاسية، ليظهر حلف التيار وحزب الله أشدّ مما كان وأكثر صلابة. وكان الرهان على إحداث توازن سلبي في الانتخابات النيابية يُعيد تشكيل المجلس النيابي على قاعدة لا أغلبية حاسمة، وخيّبت النتائج آمال المراهنين بمنح تحالف حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر وحلفائهم أغلبية حاسمة واضحة، تكفي وحدها لتشكيل سدّ دستوري دائم أمام أي محاولة للعبث السياسي المستمر منذ العام 2005 عبر امتلاك خصوم المقاومة وحزبها القيادي الأغلبية في المجالس النيابية المتعاقبة، من دون أن يغير في هذا كل تأخير في ولادة الحكومة الجديدة، أو كل تلاعب بتوازناتها بصورة معاكسة للتوازن النيابي، الذي سيبقى حاكماً، وقادراً على إطاحة أي حكومة بضربة واحدة، بينما يسلّم الثنائي السعودي الإسرائيلي بأن توازن القوة العسكري بين المقاومة و«إسرائيل» كاسر لصالح المقاومة ويزداد ميله نحو الانكسار أكثر فأكثر.

في الجبهة السورية ثلاثة محاور استقطبت الجهود الأميركية السعودية الإسرائيلية، الرهان على تبدل في الموقع التركي من مسار أستانة كلما اقتربت ساعة استحقاق إدلب، والرهان على توسيع هامش الحركة الإسرائيلية في الأجواء السورية بقوة الضغط على روسيا، والرهان الثالث كان على شق التحالف الروسي الإيراني بإغراء روسيا ببيع فروة رأس إيران في سورية مقابل الخروج بتسليم بنصرها المنفرد. ولا حاجة لاستعراض تفصيلي للرهانات الثلاثة لاستخلاص نهاياتها المخيبة لآمال الثلاثي الأميركي السعودي الإسرائيلي، وتبلور حقائق ووقائع تحسم ضبط الرمادية التركية في مسار إدلب، وتزيد تعقيد الحركة الإسرائيلية في الأجواء السورية وصولاً لحد الاختناق، وتظهير درجة التماسك الروسي الإيراني وتمسك كل منهما بالتحالف الذي رفع روسيا إلى مرتبة القوة الدولية الأولى في المنطقة، كما رفع إيران إلى مرتبة الدولة الإقليمية الأولى في المنطقة، ودرجة التلازم بين تماسك هذا التحالف وتحقيق هذا الإنجاز.

في العراق ثلاثة رهانات، أولها على الموقف الكردي الراغب بالانتقام من سقوط مشروع الانفصال وتحميله إيران مسؤولية هذا السقوط، وثانيها على التيار الصدري وأزمة موروثة ومتراكمة لعلاقته بإيران، وثالث على تأثير الوجود الأميركي المباشر، والتلويح بتوظيفه عند الضرورة للتأثير على التوازنات. وكان الاستحقاق الانتخابي ومخاض حسم الرئاسات العراقية الثلاث ساحة النزال، ولا حاجة للتفصيل ولا للتحليل وقد انتهت المخاضات كلها، إلى رئاسات يقول خصوم إيران وقوى المقاومة أنها انتهت لصالح ثلاثة رؤساء تجمعهم علاقات التنسيق مع إيران، وخروج الذين قادوا مشروع الانفصال ومثلهم الذين قادوا مشروع الخروج من خيار المقاومة، بالخسران والخيبة.

– على الجبهة الإيرانية ثلاثة رهانات أيضا عاشت اختباراتها القاسية خلال الشهور الماضية، رهان على تأثير العقوبات الأميركية في استنهاض معارضة سياسية تشبه تلك التي ضجّ بها الشارع الإيراني قبل عشر سنوات في تجربة مماثلة وتصل لتهديد الاستقرار السياسي، ورهان على تحريك الإتنيات والعرقيات والمذهبية لتشقق يصيب النسيج الاجتماعي الإيراني يؤسس للاضطرابات الأمنية الأهلية، واختناق مالي بفعل تأثير قرار العقوبات المشددة على مبيعات النفط الإيرانية، وصولاً لجعلها حد الصفر. وقد نجحت إيران برسم خطة المواجهة بما يتيح لها تضييق هوامش تأثير هذه الرهانات إلى الحدود الدنيا وجعلها قابلة للتعايش، وغير قادرة على إحداث أثر يؤخذ في حساب التوازنات أو يغير في جوهرها، ففي مواجهة الداخل السياسي تمسّكت إيران بوحدة ثنائي الإصلاحيين والمحافظين كخط دفاع أماميّ يتولّى فيه الإصلاحيون الحكم ويقف المحافظون خلفهم عكس الحال الذي كان قبل عشر سنوات، فصارت المعارضة الخارجية وحدها محور العبث وهي محدودة الأثر ومحكوم عليها سلفاً بالفشل، وفي مواجهة التلاعب بالأعراق والقوميات شكلت إيران خط دفاع متين بالتحالفات الإقليمية على الجبهات الكردية والتركية والباكستانية. وهي الخلفيات والمتركزات لأي حراك كردي أو تركماني أو بلوشي. وتكفّل الخطاب المذهبي لحكومات الخليج بتعطيل مفاعيل أي تحريض قومي عربي ليصير التهديد عاجزاً عن استنهاض أكثر من مجموعات التطرف التقليدية كما قالت عملية الأهواز. وبوجه العقوبات النفطية أقامت إيران خط دفاع دولي أثبت فاعليته لضمان تدفق نفطها نحو العالم، والخط ممتد من اوروبا التي تعهّدت الحفاظ على نصيبها بمليون برميل نفط يومياً إلى روسيا التي تعهّدت إعادة بيع نصف مليون برميل يومياً من النفط الإيراني، والصين التي ستحافظ على مشترياتها من دون نقصان، وتركيا التي رفضت الأخذ بالعقوبات، ولعل الحركة العسكرية الإيرانية في مضيق هرمز، والصواريخ الإيرانية على الجماعات الكردية المنشقة والمقيمة تحت الرعاية الأميركية في اربيل، أو التي استهدفت داعش تحت الأنف الأميركي في البوكمال، ما يكفي للقول يدُ مَن هي العليا في شرق المتوسط وصولاً إلى إيران، وحدود باكستان التي اجتاحتها رياح التغيير أيضاً، وصولاً لحدود الصين، التي تشمّر عن زنودها استعداداً للمواجهة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى