بقلم غالب قنديل

عن “الرجل الذي لم يوقع”

غالب قنديل

البرنامج التوثيقي الذي تبثه قناة الميادين بهذا العنوان يؤرخ لحقبة هامة من تاريخ المنطقة والصراع العربي الصهيوني بصورة خاصة ومحوره المواقف والخيارات التي اتخذها الرئيس الراحل حافظ الأسد في إدارة الصراع خلال سنوات عاصفة وحرجة اجتازتها المنطقة منذ حرب تشرين ومن ثم زيارة الرئيس المصري انور السادات إلى القدس المحتلة وتوقيع اتفاقية كمب ديفيد ويقع العمل في اثنتي عشر حلقة تغطي حقبة هي بامتياز حقبة حافظ الأسد الذي طبعها بطابعه الخاص وبأسلوبه القيادي المميز.

يمثل البرنامج مساهمة مهمة وغنية في معركة الوعي وفي تعريف الأجيال الشابة العربية على صفحات يجهل الكثيرون وقائعها فشخصية الزعيم حافظ الأسد يحيط بها جحود خطير وقد بذلت جهود هائلة لحجب مزاياه التاريخية المبدئية ولطمس معالم نهجه القومي عن عمد وتقصد ومن هنا ففي البرنامج مبادرة ترسخ الاعتبار بالوقائع لشخصية قومية فذة ولرمز كبير سكنه هاجس الاستقلال والتحرر من الهيمنة الاستعمارية الصهيونية وهذه المبادرة تسجل كمساهمة نوعية للميادين في التنوير السياسي القومي.

يراكم البرنامج في سياق حلقاته معطيات عملية تفسر سر رفض الأسد للتوقيع وذلك هو مضمون الرسالة المحورية التي يقدمها بالوقائع الصلبة من خلال التوثيق لمحاضر لقاءات ومباحثات أجراها الأسد مع مسؤولين اميركيين وعرب دافع خلالها عن فهمه للسلام العادل والشامل بلباقة وبحزم وشجاعة وكان جديرا بانتزاع احترام أخبث مفاوضيه هنري كيسنجر ونال تعاطف واحترام الرئيس الأميركي جيمي كارتر الذي اعتبره مختلفا والذي اظهر وتقديرا خاصا لمكانة سورية ورئيسها حافظ الأسد.

تولت المستشارة السياسية والإعلامية في الرئاسة السورية الدكتورة بثينة شعبان عرض أبرز المحطات مدعمة بوثائق من أرشيف الزعيم الراحل ومن أرشيف الرئاسة السورية بينما تضمن البرنامج شهادات عديدة أميركية وإسرائيلية ومصرية وفلسطينية ولبنانية وردت في السياق نفسه على لسان شخصيات كانت مشاركة في الأحداث او شاهدة عليها.

عنوان البرنامج موفق جدا في تكثيف نهج الزعيم الراحل حافظ الأسد الذي كان مدركا بقوة لقيمة موقفه الصلب والمقاوم الرافض لتوقيع صلح مع إسرئيل وبالشروط التي حملها إليه الرؤساء الأميركيون وروجها وزراء خارجيتهم وموفدوهم الذين اعترفوا ببراعة الأسد التفاوضية وبحزمه المبدئي.

ان رفض الأسد للتوقيع بني على مبدأ كرره في اكثر من مناسبة وبصياغات مختلفة فهو كان يعتقد بأنه إذا لم يستطيع توريث شعبه وامته انتصارا حاسما ولائقا يحرر الأرض المحتلة ويسترد الحقوق فلن يورث عار استسلام مشين يكرس شرعية الاحتلال وهذا ماكان مضمون موقفه عندما انطلقت مسيرة الاستسلام بكامب ديفيد ومن بعدها مع اتفاقي وادي عربة واوسلو وكذلك اتفاق 17 أيار الذي دعم حافظ الأسد قوى المقاومة اللبنانية التي عملت لتمزيقه وإسقاطه.

كان القادة الصهاينة والأميركيون يريدون توقيع سورية والتوقيع الشخصي لرئيسها بأي ثمن ليكرسوا شرعية الكيان الغاصب في المنطقة ولاستكمال بسط الهيمنة الاستعمارية الصهيونية وسعى رؤساء الولايات المتحدة لانتزاع توقيع الرئيس حافظ الأسد ولم يوفروا وسيلة ضغط او إغراء وكلما يأسوا واصطدموا بعناد الأسد تلاحقت الخطط والمؤامرات لتطويقه ولاستنزاف سورية بهدف إخضاعها وكسر إرادة الصمود التي طورها القائد الأسد وحصنها باستقلال سياسي واقتصادي راسخ وبقدرات دفاعية لم يتواني عن تعزيزها وتطويرها فقد كان يعد سورية بشكل متواصل لمجابهة العدوان والاستهداف وتخطى بحزم جميع المحطات الحرجة التي استخدمت فيها الولايات المتحدة ودول الغرب حشدا من الحكومات التابعة وخصوصا في الخليج وتركيا وسائر ادواتها العميلة كتنظيم الأخوان المسلمين خلال الثمانينات وصمد الأسد في وجه التهديدات الأميركية الصهيونية عام 1982 بعد الاجتياح الصهيوني للبنان وتمكن مع الزمن الذي كان من مكونات استراتيجيته من تحقيق انقلاب استراتيجي باحتضان المقاومة التي أذلت الاحتلال وكان انتصارها بهروب الصهاينة من الجنوب آخر المحطات التاريخية التي شهدها قبيل وفاته.

نتوقع من البرنامج في حلقاته المقبلة متابعة عرض وقائع ووثائق جديدة عن فصول عديدة هامة وحاسمة من تاريخ المنطقة والعالم كان خلالها الرئيس الراحل حافظ الأسد صانعا للعديد من الأحداث والمعادلات ونتوقع الإضاءة على طريقة تعاطي الأسد مع الانعطافات الكبرى والخطيرة في العالم والمنطقة التي عاصرها ولم تصرفه أبداعن قضيته المركزية التي كانت حماية استقلال سورية وثوابتها ومكانتها.

في حلقات البرنامج التي شاهدناها تابعنا كيف جسد الرئيس حافظ الأسد استراتيجيته الخاصة في قيادة الصراع ضد الهيمنة الأميركية الصهيونية من خلال ثباته على رفض الاستسلام وعدم توقيع أي اتفاق منفرد وتمسكه بقضية فلسطين وبتصوره عن الانسحاب الشامل حتى خط الرابع من حزيران وكانت آخر قممه مع رئيس اميركي في جنيف مع بيل كلينتون تتويجا لمسار من الصمود والتمسك بالحقوق فظل مصمما على سيادة سورية واستقلالها في الشكل والمضمون وفي ادق التفاضيل وكانت عبارته الشهيرة عن مياه طبريا مأثرة حاسمة في رسم الحد الأدنى لمفهوم استعادة الأرض السورية المحتلة.

تميز البرنامج بإطلالة الإعلامية اللبنانية سعاد العشي التي أدارت الحوار بأناقة ومهنية وقد ساهمت الدكتورة شعبان في إعادة بناء السياق التاريخي وإغناء الحلقات من خلال شرحها المواكب للوثائق والمحاضر والمراسلات التي نسقتها من الأرشيف الرئاسي وقامت بشرح الخلفيات والوقائع التي عبرت عنها مواقف الزعيم الراحل بحرارة ظاهرة وبفعل مشاركتها لسنوات في لقاءات الرئيس مع الزوار الأميركيين والغربيين وتعرفها عن كثب على طريقته في التفكير وإلى نظرته الاستراتيجية للصراع العربي الصهيوني ولقضية الاستقلال والتحرر ومقاومة الهيمنة التي اعتنقها تاريخيا ولم يفرط بها أبدا وكانت بحق قضية عمره.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى