لمَ عرضت أميركا على إيران الحوار؟ وما المصلحة الإيرانية فيه؟: العميد د. أمين محمد حطيط
عندما تملّصت أميركا من التزاماتها في الاتفاق والقرار الدولي حول الملف النووي الإيراني، وعادت إلى اتخاذ التدابير الكيدية ضدّ إيران مصحوبة بالتهديد بمعالجة الأمر بالوسائل العسكرية، عندما حصل ذلك ظنّ الكثير من المتتبّعين للعلاقات الأميركية الإيرانية بأنّ الطرفين ذاهبان إلى حرب لا بدّ منها في ظلّ البيئة التي أنتجتها السلوكيات الأميركية، خاصة وكما كانوا يروّجون أنّ أميركا بحاجة إلى هذه الحرب من أجل تمرير ما بات يُعرف باسم «تصفية القرن» للقضية الفلسطينية، وأنّ «إسرائيل» والسعودية تشجعان عليها لا بل تطلبان هذه الحرب للخروج من المأزق الاستراتيجي والعسكري بعد فشل العدوان على سورية وتخبّط السعودية في اليمن .
بيد أنّ إيران تعاملت مع الموضوع باقتدار كبير وأبدت من الحكمة والحزم على حدّ سواء ما جعل المهمة الأميركية الإسرائيلية السعودية، الرامية إلى إخضاعها تتعثر في بداية خطوتها. فقد أدركت إيران منذ البدء أنّ الرضوخ للكيد الأميركي يعني بكلّ بساطة التنازل عن الاستقلال والسيادة والتفريط بالثورة الإسلامية كلاً ومبدأ ومسار حياة، والعودة إلى حال التبعية والوصاية الغربية التي عانت إيران منها قبل الثورة والتي لم تكن الثورة ألا من أجل التخلص منها.
ولأجل ذلك عملت إيران في المواجهة على خطوط ثلاثة متناغمة ومتكاملة: الأول سياسي دبلوماسي عبر التحكم بردّة الفعل وسحب الذرائع، فهي لم تتصرّف بانفعال وتسارع إلى الخروج من الاتفاق النووي كما توقعت وتشتهي أميركا، بل عملت عكس ما خططت وتوقعت أميركا فتمسّكت بالاتفاق وعملت مع الـ 5 الباقين من أطرافه للمحافظة عليه ونجحت في مسعاها. وبدلاً من ان تعزل إيران دولياً كانت العزلة من نصيب أميركا التي ظهرت في موقف دولي واهن فاقدة المصداقية لا تشجع أحداً على العمل معها او الاستجابة لمطالبها، بما في ذلك أوروبا الحليفة لها منذ الحرب الثانية.
أما الثاني فقد كان عسكرياً ردعياً، حيث حشدت وأظهرت قوّتها وأجرت المناورات المعلن عنها أو غير المعلن، وأظهرت بالتعاون مع حلفائها في الإقليم عامة، وفي الساحات الملتهبة الساخنة خاصة من القوّة والقدرة على المواجهة العسكرية ما جعل المتتبّع يعتقد بأنّ خسارة أيّ طرف سينازل إيران في الميدان العسكري لن تكون قليلة، لا بل لن تكون بالقدر القابل للاحتمال.
وفي الخط الثالث أتقنت المواجهة الإعلامية والحرب النفسية المضادة، حيث اعتمدت إيران استراتيجية الصوت الصاخب والتهديد المتعدّد الوجوه والمصادر. ولم يكن من فراغ إشراك قادة عسكريين وميدانيين في هذه المواجهة أمثال الجنرال قاسم سليماني الذي هدّد أميركا صراحة بمصير في المنطقة لن يكون مطلقاً كما تشتهي وترغب.
لقد أدركت إيران منذ البداية انّ أحداً في العالم وبخاصة الدول المشاركة في التوقيع على الاتفاق النووي ليس من مصلحته أن يتفلت من هذا الاتفاق، كما أدركت أنّ موازين القوى الدولية، خاصة بعد الهزيمة الاستراتيجية التي مُني بها العدوان على سورية، انّ هذه الموازين ليست في صالح أميركا، كما كانت إيران على يقين بأنّ التدابير الكيدية الأميركية ستؤلم شعبها في بعض الوجوه وتجعل بعضه يئنّ منها، لكن الأغلبية الساحقة من الشعب ستبقى متمسكة بالثورة الإسلامية التي أعادت للشعب الإيراني عزّته وعنفوانه واستقلاله ووضعت إيران في مصاف الدول الكبرى ذات البعد الاستراتيجي الدولي الفاعل في شؤون المنطقة والعالم.
هذه العوامل وغيرها من الوقائع، دفعت إيران إلى التمسك بحقوقها واستقلالها، وألزمت أميركا بالتراجع عن تهديداتها، إلى الحدّ الذي فاجأ فيه ترامب العالم عامة والسعودية و«إسرائيل» خاصة، بدعوته إيران إلى الحوار غير المشروط وإبداء استعداده لمناقشة أيّ موضوع تطرحه إيران عليه.
فوجئ البعض بالعرض الأميركي، لكن العارفين ببواطن الأمور والمدركين شخصية رجل الأعمال او التاجر دونالد ترامب لم يفاجأوا لأنهم كانوا يتوقعون ان ينقلب ترامب على مواقفه انْ لم تأت اليه بالربح المالي. فالمال ثم المال هو ما يملي على ترامب سياسته، وإذا كانت الحرب مكلفة وغير مضمونة النتائج، فإنّ ترامب سيكون من أشدّ المعارضين لها، وإذا كان اللقاء مع الإيرانيين سيعود على أميركا ببعض الفوائد من غير خسائر مالية فإنّ ترامب سيكون من أشدّ المطالبين به، خاصة أنّ الثمن الذي قبضه من السعودية أصبح في الجيب الأميركي ولن ينتزعه أحد منها.
إنّ العرض الأميركي بالحوار مع إيران قد يُستجاب له أو لا يُستجاب وفقاً للتقدير والمصلحة الإيرانية، خاصة أنّ إيران تعلم يقيناً بأن لا مصداقية مطلقاً لأميركا لا في التزام ولا في توقيع، إنّ أميركا هذه وقعت مع سكان البلاد الأصليين فيها والذين يُطلق عليهم اسم الهنود الحمر 372 اتفاقاً لم ينفذ منها اتفاق واحد. والسبب ضعف الهنود الحمر وقوة البطش الأميركي بهم، ثم أنّ إيران لا تجد حاضراً من يضمن أميركا في تنفيذ أيّ التزام في اتفاق جديد. ولأجل ذلك ستجد إيران نفسها غير معنية بالعرض الترامبي للحوار ليس لأنها لا ترغب به، بل لأنها قد لا تجد فائدة منه.
بيد أنه من جهة أخرى قد ترى إيران أنها ومن أجل تخفيف الضغوط الأميركية على الآخرين الذين رفضوا الموقف الأميركي وتمسكوا بالاتفاق النووي معها، قد تجد أنّ الحوار وفقاً لمبادئ تلتزمها ولضوابط تضعها ليس مضراً بل قد يكون فرصة تعرّي أميركا وتعطي قوة أكبر للموقف الإيراني.
وعليه، إذا لمست إيران أن لا ضرر معنوياً أو مادياً مؤكداً من اللقاء في حوار مقيّد مع أميركا فإنها قد توافق على إجرائه ضمن ضوابط وقواعد تلتزمها أوّلها تحييد القدرات العسكرية الدفاعية الإيرانية عن أيّ نقاش، والثاني رفض التدخل الخارجي بالقرار الإيراني المستقلّ والسياسات الإيرانية المنسجمة مع أهداف الثورة الإسلامية، وأخيراً تأكيد الحقوق الإيرانية في الاستعمال السلمي المتعدّد الوجوه للطاقة النووية.
إنّ بإمكان إيران ان تنطلق في الحوار المقيّد هذا، وهي تدرك انّ أميركا لم تطلب الحوار إلا بعد أن أدركت انّ الحرب التي تهوّل بها غير ممكنة، وانّ التدابير الكيدية المسمّاة عقوبات أميركية ضدّها مؤلمة ولكن غير قاتلة، وانّ محور المقاومة إلى تصاعد في الموقع الجيوسياسي والدور الاستراتيجي بعد إنجازاته في سورية واليمن والإقليم، وأنّ ما هدّدت به من إنشاء «ناتو عربي» لمقارعة إيران غير عملي وغير فاعل، إضافة إلى إدراكها بأنّ أميركا تعلم انّ أوروبا حليفتها التاريخية لن تكون شريكاً معها في أيّ عمل عسكري أو تدبير كيدي ضدّ طهران، وانّ من تعوّل عليهم في الخليج يتهيّبون مواجهة إيران فوق ما تتصوّر أميركا.
لكلّ هذا نجد انّ إيران ليست مضغوطة للموافقة على حوار مع أميركا وقد لا تكون متضرّرة لفتح حوار مقيّد معها، بيد انه في الحالتين نرى انّ مجرد العرض الأميركي طلباً للحوار يعني انّ أميركا أيقنت أنها في مأزق في علاقتها مع إيران التي تشعر رغم الصعوبات الناجمة عن التدابير الأميركية الكيدية، تشعر بأنها في وضع المسيطر على الوضع والواثق من نتائج المواجهة مهما كانت طبيعتها.
(البناء)