بقلم ناصر قنديل

لا تقلقوا على إيران: ناصر قنديل

 

 

تدخل اليوم العقوبات الأميركية المشدّدة على إيران حيّز التنفيذ، وهي تطال حظر حصول إيران على الدولار الأميركي وتداوله والسعي لمنعها من امتلاك الذهب والمعادن الثمينة، وتحت هذا العنوان معاقبة كل الشركات والمصارف والأشخاص والحكومات التي تشترك في أنشطة تعرقل تطبيق هذا الحظر. والترجمة التطبيقية للعقوبات تعني محاصرة إيران في الأسواق العالمية لمنعها من بيع صادراتها، وخصوصاً النفطية، لإطلاق حملة تهافت على الدولار بين الإيرانيين وصولاً لانهيار العملة الإيرانية وقدرتها الشرائية، واندلاع اضطرابات اجتماعية يمكن الدفع لتصعيدها بتحضيرات لوجستية وسياسية وإعلامية، ما تراهن واشنطن على جعله البيئة التي تدفع لتراجع إيران عن تمسكها بشروطها للتفاهم حول ملفها النووي ودورها الإقليمي، وإلا تنامي الاضطرابات ودخول إيران مرحلة من الفوضى السياسية والأمنية توفر الفرص للانقضاض على نظامها السياسي والأمني ومرجعياته الدينية، وتهيئة بدائل من داخل النظام وخارجه ترتضي بالشروط الأميركية.

الخطة الأميركية تستدعي للفوز في جولة المواجهة التي تُطلقها بثلاثة شروط غير متوافرة: الأول أن تنجح واشنطن في خلق مناخ دولي مؤاتٍ لمحاصرة إيران في السوق النفطية، بصورة تطال أغلب صادراتها، وبالمقارنة مع مراحل العقوبات السابقة تبدو إيران في وضع أفضل مما كانت عليه، قبل التفاهم على ملفها النووي. فروسيا والصين اللتان شاركتا في إقرار وتطبيق العقوبات التي أقرها سابقاً مجلس الأمن الدولي على إيران، تقفان الآن بعد التفاهم وبعد إلغاء العقوبات الأممية إلى جانب إيران وتسعيان للمساهمة في تزويدها بفرص جدية في السوق النفطية من خارج منظومة العقوبات الأميركية، وأوروبا التي كانت المسرح الرئيس للعقوبات ضد إيران، تبدو مصرّة على تطمين إيران بصدد مستورداتها النفطية، رغم عدم قدرتها على مواجهة العقوبات في مجال الاستثمار في إيران، وبالتوازي يبدو الشريكان الرئيسيان لإيران في سوق النفط والغاز، وهما الجاران التركي والباكستاني، غير آبهين بالعقوبات، تلبية لمصالح حيوية للاقتصاد الذي لا يملك موارد للطاقة في البلدين، والحاجة لتدفق سلس وبسعر جيد توفره إيران بقوة عامل الجغرافيا، والعقوبات التي تربك إيران في سوق النفط والغاز، وبالتالي تحصيل الموارد بالعملات الصعبة، تبدو بحال أفضل مما كانت يوم كانت العقوبات قبل وصولها للتفاهم على ملفها النووي، كما تبدو فرص التخلّي عن الدولار الأميركي لصالح سلة تسعير التومان الإيراني تقوم على رباعي اليورو واليوان الصيني والروبل الروسي والذهب .

الشرط الثاني للفوز الأميركي بحاصل الخطة التي تترك في مراحلها الأولى تبدلاً في مزاج السوق لصالح الارتباك والفوضى في التسعير، والتهافت على الدولار، هو أن تكون في إيران قوة سياسية جدية وازنة وجاهزة لتلقف العقوبات وآثارها وتوظيفها في الدعوة للانقلاب على النهج المناوئ لواشنطن، سواء بقبول تنازلات في الملف النووي، أو في تغيير السياسات الإقليمية وخصوصاً في الموقف من «إسرائيل» والسعودية، وقوى المقاومة، والحركة الأميركية الجديدة تجري في مناخات مختلفة عن المحاولة السابقة عام 2008 عندما كانت المواجهة حول الملف النووي الإيراني والسياسات الإقليمية لإيران، تجري بظل مواجهة بين التيار المحافظ ممثلاً بالرئيس أحمدي نجاد، مع تيار إصلاحي وازن وشعبي يتزعمه قادة مثل حسين موسوي ومهدي كروبي والرئيس محمد خاتمي، وكان التشدد بوجه السياسة الأميركية من جانب التيار المحافظ يقابل بدعوات المرونة من جانب التيار الإصلاحي، بينما المواجهة تجري اليوم والتيار الإصلاحي موجود في السلطة، وهو مَنْ يتبنى السياسات الداعية لمواجهة واشنطن ومخططاتها، ويسعى لتوحيد المجتمع السياسي للنظام الجمهوري الإسلامي وراء الرئيس حسن روحاني، عبر العلاقة القوية بالمرشد الإمام علي خامنئي والحرس الثوري وقياداته من جهة، والإفراج عن قادة التيار الإصلاحي المعتقلين أو الموضوعين في الإقامة الجبرية من جهة مقابلة، على قاعدة اعتبار المرحلة، مرحلة مواجهة وطنية، ورغم التوترات التي يقودها بعض المحافظين بوجه روحاني في محاولة لتدفيعه ثمن خياره التفاوضي، فإن الصراعات تجري على الحاضر والمستقبل لا على الماضي، ولا يبدو أن ثمة خلافات بين المحافظين والإصلاحيين تجاه ما يجب فعله، رغم الجدل الدائر حول ما تمّ فعله، على المستوى التفاوضي والأحلام التي تم بثها حول عائدات هذا التفاوض، وما ترتب عليها من نتائج اقتصادية خربت الكثير من فرص صمود الاقتصاد، وورطت الاقتصاد الإيراني بإنفاق كبير في الاستثمار مجالات ترتبط بالانفتاح على الغرب، يهدّدها الإفلاس مع تراجع هذه الفرص الانفتاحية والاستهلاكية.

الشرط الثالث يتصل بالوضع الإقليمي، وما يحتاجه الاشتغال على تحريك الداخل الإيراني من منصات مجاورة قادرة ومؤهلة للتوغل في الداخل الإيراني وتحريك خيوطه. وبالنظر لمحيط إيران الجيوسياسي، يمكن إرباك إيران بالاستثمار على الديمغرافيا الكردية في الغرب، أو المناطق التي يسكنها البلوش في الشرق، أو العرب في الجنوب، من جهة، وامتلاك جار واحد على الأقل مستعدّ لكسر الجرّة مع إيران وتقديم جغرافيته لمنح المعارضين الذين ترغب واشنطن باستجلابهم والزجّ بهم إلى الداخل الإيراني. ومراقبة هذه العناوين، تقول إن إيران تحصّنت استباقاً في الملف الكردي بالتعاون مع تركيا في مرحلة إجهاض انفصال كردستان العراق، التي كانت واحدة من المنصات المزدوجة المحتملة نحو الأكراد الإيرانيين ونحو الداخل الجغرافي لإيران عموماً، كما تبدو السعودية ودول الخليج المستنزفة في حرب اليمن، والمدركة حجم ما تستطيعه إيران من تأثير في وضعها الأمني والاقتصادي، أضعف مما كانت قبل عشرة أعوام. وفي الشرق ها هي باكستان تتحوّل من مشروع نقمة على إيران إلى نعمة لها بعد التغيير السياسي الذي حملته الانتخابات، وما يقطع طريق الاستثمار على الإتنيات البلوشية والكردية والعربية يقطع الطريق على جار يستخدم كمنصة للتوغل في الداخل الإيراني.

بالمقابل تقول تجربة ما قبل عشر سنوات إن واشنطن التي كانت لا تزال تحلم بترتيب أوراقها بعد الفشل في حروب العراق وأفغانستان ولبنان، وكان على رأسها متطرّف بالأصالة هو الرئيس جورج بوش، ومعه فريق عقائدي متماسك هم المحافظون الجدد، اضطرت للبحث عن مخارج تحت الطاولة لعدم بلوغ نقطة اللاعودة في المواجهة، عندما بدا أن إيران ستخطو الخطوة الصعبة نحو إغلاق مضيق هرمز، وتعطيل حركة الملاحة النفطية في العالم. فكانت نافذة دبي ليتنفس الاقتصاد الإيراني بقبول أميركي، والسعي للبحث في كيفية تفادي تأثير إغلاق مضيق هرمز على الملاحة النفطية في جولة مقبلة مع إيران، وها هي عشر سنوات تمر، ومشاريع واشنطن في الحرب على سورية التي هدفت فيما هدفت لربط الخليج بأوروبا عبر شبكة أنابيب تعبر سورية ودون المرور بمضيق هرمز، تنتهي بالفشل وينتصر هرمز كممر إجباري لسوق النفط والغاز في العالم تُمسك به إيران، التي قد تكون أقل دول الجوار حاجة له كممر للنفط والغاز وهي تستعمل أنابيب الضخ للغاز نحو تركيا، ومثلها عبر باكستان لضخّ النفط إلى باكستان والصين، فيما تبدو مع حرب اليمن فرص تهديد الملاحة النفطية أكبر من الماضي بكثير، ويبدو أن كل تهديد لهرمز لا يمنح سوى روسيا فرص التحول إلى مصدر وحيد آمن للنفط والغاز في العالم مع ارتفاع في الأسعار ستسبّبه أزمة هرمز، ويضخ تريليونات الدولارات في الخزينة الروسية، ليصير البحث عن نافذة تنفّس لإيران مهمة أميركية، وتبدو تركيا النافذة المرجّحة هذه المرة، بدلاً من دبي، بعدما أعلن الرئيس التركي أنه أبلغ الرئيس الأميركي عزم حكومته مواصلة شراء الغاز الإيراني رغم نظام العقوبات.

– ستشهد إيران إضطرابات وفوضى وضغط أسعار في سوق صرف العملات، وستبدو الكثير من الأنباء المتناقلة عبر الصحافة الغربية إيذاناً بقرب سقوط إيران، لكن الوقائع تقول إن كل هذا سيكون على السطح، بينما في العمق فإن إيران أقوى مما كانت، وستخرج من هذه المحنة أقوى مما كانت، ولسان حالها يقول: لا تقلقوا على إيران فقد عرفت أياماً عصيبة مقلقة أكثر، وتخطيتها. وهي ستتخطى هذه الأزمة وتفرض معادلاتها من جديد، في ملفها النووي والملفات الإقليمية. فالعالم الذي تغيرت معادلته بقوة صمود إيران، لا يحتمل تراجعاً إيرانياً، وسيضع كل الذين يقفون على ضفة جني المكاسب من تراجع القبضة الأميركية مستفيدين من صمود إيران ثقلهم كي لا تتغير الموازين، ومَنْ جلب جيوشه إلى سورية ليمنع انتصار المشروع الأميركي دفاعاً عن مستقبل بلاده ومكانتها وأمنها القومي، كما هو حال روسيا، فلن يبخل بفعل ما يلزم لمنع إضعاف إيران. وهو يعلم المترتبات جيداً، وخير مثال ما جرى في مفاوضات هلسنكي حول دور إيران في سورية، والرفض الروسي المطلق للعروض الأميركية الإسرائيلية المغرية لمقايضتها بالموافقة على جعل الخسارة الإيرانية من سورية ثمناً لنصر روسيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى