هذا ما أكده السيد نصر الله… ففاقم قلق «إسرائيل» العميد د. أمين محمد حطيط
منذ اضطرار حزب الله إلى العمل في سورية إلى جانب جيشها دفاعاً عنها وعن محور المقاومة وعن لبنان وخدمة للقضية الفلسطينية التي ما كان العدوان على سورية وعلى محور المقاومة أصلاً إلا من أجل تصفية قضيتها، يشتد الحديث عن المتغيّرات التي طاولت حزب الله وقدراته في مواجهة «إسرائيل» وصولاً إلى الحديث عن سقوط معادلة «الردع المتبادل» بين المقاومة والعدو، واجترار مقولة بعض السطحيين الذين رأوا أن معادلة حماية لبنان «الشعب والجيش والمقاومة» قد سقطت.
هذا كان قول أعداء المقاومة، أما هي ومحورها فقد كان لهما قول آخر تعرف «إسرائيل» جلّ مضمونه قبل أن يُصرَّح أو يُنطق به، وجاءت عملية المقاومة في مزارع شبعا منذ شهر ونيّف لتؤكد لـ«إسرائيل» مخاوفها ولتسقط أوهام التافهين وسطحية تفكيرهم، وبعد ذلك تداعت المواقف «الإسرائيلية» التي يمكن تصنيف أهدافها تحت أحد عناوين ثلاثة. أولها، ما يسمى الاستطلاع بالإعلام وهو العمل الذي بمقتضاه تطلق إشاعة أو خبر مختلق وينتظر الرد عليه تأكيداً أو نفياً، وفي الحالين تستفيد «إسرائيل» من الرد لإكمال معطياتها الاستخبارية، والثاني الإخبار وتظاهر العدو بأن ما لديه مكشوف ومعروف وحمله على التفكير العميق قبل اللجوء إليه واستعماله، وأخيراً التحذير والاستنهاض لدفع من يعنيه الأمر إلى توخي الحذر والحيطة قبل أي قرار بالحرب ضد عدو يملك مثل هذه القدرات.
وللمفارقة الشديدة أو الخطأ الذي لم يتنبه إليه أصحاب الشأن في جبهة العدو، هو التناقض الذي سُجّل في المواقف الإعلامية التي تنعى قدرات حزب الله وتراجعه في الميدان إلى حد تجرؤ البعض على القول إن حزب الله فقد قدراته المقاومة وبات يترنّح في الميدان متآكلاً لا يقوى حتى على حماية نفسه في مواجهة التكفيريين، فكيف إذا تعرّض لهجوم من «إسرائيل» ومواقف الأخيرة التي تؤكد صراحة تزايد قدرات حزب الله إلى الحد الذي يمكنه من خوض مواجهة مؤثرة ومؤلمة لـ«إسرائيل»؟! حتى أن المسؤولين «الإسرائيليين» لا يستطيعون تقدير مداها الذي قد يكون أقله إغلاق المطار والمرافئ وعزل «إسرائيل» عن العالم الخارجي.
في ظل هذا المشهد الذي يحمل التناقض في جزئياته صدح السيد حسن نصرالله يوم عاشوراء ليضع النقاط على الحروف ويكشف حقيقة الواقع الذي بات حزب الله عليه بعد أربع سنوات من العدوان على سورية، وبعد سنة ونصف تقريباً من مشاركة حزب الله للجيش السوري في معركة الدفاع عن الوطن ومحور المقاومة، وأشد ما يمكن أن يحمل المراقبين على البحث وتقصي قصد السيد في عرضه للموضوع المتعلق بالمواجهة، هو ما أعلنه أو أضمره السيد من قدرات حزب الله أو ما يستطيع الحزب فعله في المواجهة المستقبلية مع «إسرائيل» في الحرب الثالثة بالتسمية «الإسرائيلية» إن وقعت.
بداية، ينبغي التوقف عند الثوابت التي يعتبر متجاهلاً أو غافلاً أو أعمى من لا يأخذ بها أو لا يعتبرها في أي موقف يتخذه من المقاومة. الثابتة الأولى أن قضية فلسطين هي الصلب والجوهر في عمل المقاومة ومبرر وجودها أصلاً، فالمقاومة ومحورها ما كان وجودهما إلا من أجل الرد على وجود «إسرائيل» وعدوانها، وأي عمل تقوم به المقاومة يصبّ في النهاية في خدمة المشروع الأساس وهو مقاومة «إسرائيل» والتصدي لعدوانها.
أما الثابتة الثانية، فهي أن حزب الله عندما ذهب إلى سورية فقد ذهب للدفاع عن المقاومة ليبقيها قادرة على القيام بمهمتها الأساسية أي مقارعة «إسرائيل»، وبالتالي لا تكون معركة المقاومة في سورية معركة انحراف أو إشغال أو إلهاء عن الهدف الأساسي، بل هي معركة حفظ المقاومة وتأكيد الاتجاه الأساس لها وإجهاض أية محاولة لإدخال «إسرائيل» دائرة الطمأنينة في احتلالها بعد حجبها بإرسالها التكفيريين.
أما الثابتة الثالثة، فهي أن على رغم كل ما نُفّذ أو رُوّج أو أُشيع في إطار الحرب النفسية من قول بأن القتال في المنطقة إنما صراع ديني ـ مذهبي بين السنة والشيعة أو عرقي بين العرب وسواهم من الأعراق، إنما هو زيف وتزوير وبهتان، لأن حقيقة الصراع هي بين محور يريد تثبيت «إسرائيل» في احتلالها في سياق المشروع الصهيوأميركي، وآخر يتصدى لهذا المشروع وعلى رأس اهتمامه التصدي لـ«إسرائيل» في هذا الاحتلال، وأيّ معركة دارت على مساحة المنطقة وكانت المقاومة فيها طرفاً فإن الطرف الآخر يكون «إسرائيلياً» مباشرة أو بديلاً يقاتل نيابة عن المشروع الصهيوأميركي، ولن تقع المقاومة اليوم ولا غداً في فخ التحريف للأهداف وحقيقة الصراع.
على ضوء هذه الثوابت جاءت مواقف السيد حسن نصر الله في خطبتي إحياء مراسم عاشوراء في ليلتها ويومها الأخير، لتكون رسالته الأشد أهمية وخطراً، عندما أكد ما يمكن أن تفعله المقاومة في الحرب المقبلة إن وقعت فاتحاً الباب للبحث عن احتمالات يجب أن تؤخذ بالحسبان. وإن لم يشرح تفصيلاً تلك الاحتمالات، فإن الوقائع وعناصر المشهد العام والمعادلات التي تشكلت أخيراً تقود إلى تحديد تلك الاحتمالات كالتالي:
الاحتمال الأول: تغطية كل أرض فلسطين المحتلة بالنار المؤثرة المحرقة والمدمرة. إذ لن تكون هناك ـ كما أعلن السيد ـ بقعة واحدة من فلسطين لا تصلها صواريخ المقاومة، وهذا الاحتمال بالغ الأهمية بالنسبة إلى «إسرائيل» التي عملت في السابق على إرساء عقيدة قتالية تقوم على قاعدة «الحرب على أرض الخصم والنار في داره فقط»، وجاءت حرب تموز 2006 لتسقط هذه النظرية، وتحمل «إسرائيل» على البحث عن حل للمستجد فكانت نظرية «المناعة الاجتماعية» التي تحقق قدرة المجتمع على العمل في ظل الحرب، عبر اعتماد القبة الفولاذية والتحصينات والعمل في الملاجئ. وهنا كان تطوير قدرات المقاومة التي امتلكت الصواريخ النوعية الدقيقة الإصابة والفعالة في الوصول إلى الأعماق ودك الملاجئ، ما أسقط نظرية المناعة الاجتماعية وجعل احتمال تعطيل الحياة في «إسرائيل» وعزلها عن العالم الخارجي بإغلاق كل مرافئها البحرية والجوية احتمالاً مرجحاً عليها أن تحسب الحساب له.
الاحتمال الثاني: المناورة في العمل البري والاقتحام. في هذا الشأن لا يمكن أن نتجاوز ما ازدحم به إعلام العدو أخيراً من أحاديث حول إمكان حفر المقاومة للأنفاق باتجاه الجليل، خصوصاً بعد أن أوحى السيد حسن نصرالله باحتمال الإذن أو إصدار الأمر لمجاهدي المقاومة بدخول الجليل، والآن وبعد الخبرات الواسعة التي اكتسبها حزب الله من القتال في سورية بات هذا الاحتمال أكثر جدية وواقعية بنظر «الإسرائيلي»، وتعلم «إسرائيل» مدى خطورته إن حصل ومدى انعكاسه على حركة الحياة في الشمال الفلسطيني المحتل والذي يعتبر في التصنيف العام المنطقة الاستراتيجية النوعية الثانية في «إسرائيل» بعد منطقة الوسط وتل أبيب.
أما الاحتمال الثالث: وهو الاحتمال المركب والأرجح بين الثلاثة. ويقوم على دمج الاحتمالين الأول والثاني مع إضافة عنصر ثالث إليهما هو تفعيل خلايا في الداخل الفلسطيني المحتل ودخول حرب الجبهات الثلاث المتكاملة نار وميدان على الحدود ومقاومة في الداخل وهو أمر تعرف «إسرائيل» أن مواجهته ليست بالأمر السهل.
أما في الرسائل الضمنية ومع قراءة ما بين سطور خطاب سيد المقاومة، فيمكن تسجيل أمرين أساسيين. الأول يتعلق بالمفاجآت التي أعدها حزب لله للحرب المقبلة وهي من طبيعة عملانية واستراتيجية لا يمكن البحث فيها الآن وإلا سقطت عنها صفة المفاجأة، أما الثانية فتتعلق بـ»الإسرائيليين» أنفسهم الذين يحتاطون عبر اقتناء جواز سفر ثانٍ غير «إسرائيلي» لمغادرة البلاد عند الخطر، فقد أوحي لهم أنهم لن يستطيعوا استعماله إذا وقعت الحرب، كون منافذ السفر ستكون مقفلة بكليتها، ثم أنهم لن يجدوا مكاناً آمناً في فلسطين المحتلة كلها، وعليهم أن يقدروا وضعهم منذ الآن وقبل وقوع الحرب. وفي هذين الأمرين كما نرى شحنة إضافية تثبت «معادلة توازن الردع» وتعززها.
أخيراً، في محصلة أولية لما تقدم نصل إلى استنتاج أن المقاومة وصلت إلى مستوى تستطيع معه تعطيل الحياة في «إسرائيل» وعزلها ومحاصرتها في أية مواجهة واسعة تقع وتنقلب إلى حرب شاملة، كما أنها قادرة على الانتقال من نار الرعب والإشغال إلى نار الشل والتدمير، وأخيراً إنها قادرة على دخول حرب مفتوحة تستطيع متابعتها دونما توقف حتى تفرض شروطها هي من دون أن يكون لـ«إسرائيل» خشبة خلاص تتمسك بها للنجاة، وفي هذا يكمن سر وخطورة ما قاله السيد نصر الله بالأمس وما لوح به المسؤولون الإيرانيون في ردهم على التهديدات الغربية التي وجهت إليهم لثنيهم عن مواقفهم الداعمة لسورية، وهذا ما أشار إليه الرئيس بشار الأسد في صيغة ذكية، عندما ردّ على التهديد الغربي بالعدوان على سورية… إنه محور المقاومة الذي امتلك القوة، وخطط لاستعمالها بفعالية تحقيقاً لأهدافه المشروعة، فبات مطمئناً لنتائج أية مواجهة.
(البناء)