عروش النون: من فلسطي(ن) إلى الأرد(ن) يرقد المسلمو(ن) في رمضا(ن) وفي الإعلا(ن)
برفسور نسيم الخوري
ليس هذا عنواناً لمقال يحرّر إستهلاله بجرحٍ سكّين للمعايدة. هو أقفار نحل فقدت غرائزها لا تنتهي أسئلتها ولا يشعر عربي أو مسلم بها.
في فم كلّ نحلةٍ مليون سؤآل للعرب وللمسلمين في آذانهم ومآذنهم.
هو عنوان بحاجة إلى جامعة من أطروحات دكتوراه يكتبها العرب لذراريهم. يكتبونها بعدما تتعب أصابعهم وأقلامهم من نضوب دماء أبنائهم. سيكتبون إلى أبد الدهر، وكتاباتهم لن تتجاوز حرفاً من سؤآل.
هل وحّد/ يوحّد رمضان بمعنى الدين العرب والمسلمين أم وحّدتهم ثقافة التسالي والبرامج والمسلسلات والمآدب والكوارث المتنقلة في ديارهم تشيع لذّة الإنقسام والتفسّخ الرهيب في عصور هي أقسى من الإنحطاط ؟
ماذا يفعل الناس الذين يسترخون في رمضان في منازلهم ليلاً أمام الشاشات عندما تتدفّق الإعلانات لتقطع الأفلام الدرامية والمسلسلات في اللحظات والمشاهد الأشدّ إحراجاً والأكثر تشويقاً وإنتظاراً وترقّباً ؟
يتفرّجون قاعدين في نون رمضان ونون فلسطين ونون الأردن ونون لبنان ونون اليمن…
قريباً سيتمّ الوصول بكم إلى الياء أعني النقطة الختامية التي تلفظ بالعرب وتشظيات المسلمين خارج التاريخ.
ينقلنا الإستفهام إلى فيلمٍ حي آخر لا علاقة له بحبة التمر وجرعة الحليب من ضرع ناقة. ظهرت فيه أفراد العائلات، ما عدا الصغار، يقفزون بسرعةٍ البرق لقضاء رغباتهم وحاجاتهم نحو المطابخ والثلاّجات والخزائن لتناول ما يقع تحت أيديهم من الفاكهة والخضار والماء والعصير أو لإرتداء سترات النوم ليتسمّروا وبسرعةٍ من جديد بإنتظار متابعة المشهد الآتي مباشرةً بعد الإعلان.
لا قيمة للإعلان إذن؟
بالعكس. له قيمة بريق الذهب. يمكن الإستنتاج عمليّاً بأنّ الميزانيات الضخمة التي تخصّص للإعلانات في الشاشات التي تملأ الفضاء ومخيلة البشر ربّما تقع في مجال الهدر في قراءةٍ أفقيّة، بينما تكشف القراءة العامودية بأنّ للإعلان سلطات ماديّة ونفسية وثقافية هائلة متعارف عليها في صناعة الاعلام بما يتجاوز العقائد والأديان والطقوس والأوطان والأرض والشعب واللغة. “تقيّد” هذه الصناعة أصحاب الشاشات والمبرمجين والمشاهدين، في مساحات زجاجية معاصرة جميلة وجذّابة وقادرة على المنافسة والتحكّم، لكنها محكومة بالربط بين الانتاج والاستهلاك في البرامج وفي تحقيق ازدواجيّة “استبدادية” ثابتة.
تختصر هذه الازدواجيّة في تمرير الصور الاعلانية والكلمات المائعة الرخوة على المشاهدين، ثمّ إعادة تقييمها عند البحث عن مدى قدرتها على الإقناع وتحقيق إستراتيجياته بمعنى قدرتها على تكديس رغبات الجماهيرRetaing ودفعها إلى الشراء. إنّها الازدواجية المتشعّبة التي تدفعنا إلى اعتبار الاعلان “السلطة” المعاصرة المطلقة التي يستعصي رفضها أوحجبها من حراك العالم المعاصر. يكفي إيصال اللحن والصوت واللون والشكل بشكل خاطف ولمّاح للسلعة التي يعلن عنها وربطها بمدى التشويق أوالتعلّق بالمسلسل أو بالمشهد أو بالفيلم الذي يتمّ عرضه وتقطيع أحداثه بالإعلانات ليحقّق المعلن والعارض الهدف حتّى ولو لم يحتلّ مشهد الإعلانات العيون والأذان بشكلٍ كامل. إنّها فلسفة صيد الناس بشبكات اللمحة التعبيريّة الساحرة واللحظة الفائقة السرعة التي تخلط بين الإعلانات والمسلسلات على حساب اللغة والثقافة والحضارة المتحوّلة إلى ما يشبه المتاحف.
كانت المفارقات كبيرة بعد رصدي لتلك الهبّة العربيّة واللبنانية الجديدة في بث المسلسلات المصحوبة بتراجع هائل للفصحى مثلاً وتحديداً خلال شهر رمضان المبارك(2018) حيث يقيم الصائمون ويتقبلون بهدوء مخيف برامج الفضائيات العربيّة المحليّة منها أو المقتبسة والمترجمة أو المستوردة. بدت اللغة الاعلانية المضغوطة عامية إيحائيّة ومتقدّمة أو متناغمة كليّاً مع المشاهد الدرامية الخاضعةً بدورها كليّاً لأهداف الترويج الأساسيّة.
لا فرق إذن ملموساً بين لغة البرامج والإعلانات في الفضائيات اللبنانية:غياب شبه كامل لما كان يعرف بالفصحى، وحضور اللهجة الواحدة في وسائل الاعلام الكثيرة، مع أن إختلاطاً في الإخراج كان واضحاً يجمع الممثلين اللبنانيين والعرب من سوريين ومصريين وأردنيين وعراقيين وخليجيين ومن تونس والمغرب في المسلسلات الجريئة أحياناً. كنّت أتوخّى الإرتفاع بالعربية وشدّ مفاصلها بعض الشيء وهو ما لم يحصل لكنّني أشير إليه مقترحاً لطالب دكتوراه يعالج لنا ظاهرة الوحدة العربيّة في شهر رمضان. إنها ظاهرة لبنانية تجاوزت العرب في إشاعة العاميات والدارجات والتهليل لها في زمنٍ يمكن القول فيه أنّ إنفتاح العيون العربيّة على بعضها البعض من خلال الفضائيات التي صارت بمتناول الجميع تحقّق نوعاً من التقارب والتفاهم بين العائلات والمجتمعات العربيّة تجاوزت في أسبابها ونتائجها معظم ما حقّقته جامعة الدول العربية والجمعيات أوالوزارات العربية في ميادين التفاهم بين عموم العرب.
تسلّطت لهجة الاعلانات المحكيّة على البرامج وكأن مصدر القرار واحد. يتوهم المشاهد من خلالها، وكأنه يعيش يجلس أمام شاشة واحدة في المضمون والشكل والصوت واللغة المعتمدة المتداخلة بالأجنبية والعاميات السوقية لتتراجع معها هوية المكان في البث، أحياناً كثيرة، بعد زوال زمانه أو خصوصيّاته الأخرى.
ما يكسب هذه الظاهرة إهتماماً مضافاً هو الأطفال وقد بانوا مفتونين بالاعلانات والمشاهد الزاهية في تأدية الممثلين والمشاهير، بحيث بدت الأفكار متقنةً مسنودة إلى براعة الإخراج في تمازج الصوت والصورة والحركة واللحن الخفيف والمشهد الخلفي، بالإضافة إلى الجمل البسيطة العامية القصيرة المعبِّرة والتي تراعي نفسيات المشاهدين صغاراً وكباراً وخلفيّاتهم الثقافية والسياسية. كان يؤدي تكرار الاعلان مع تناول الطعام اللذيذ في الليلة الواحدة إلى تسمّر الأطفال وحفظهم لما يعلن عن ظهر قلب. ليس أشدّ من الأطفال حفظاً للإعلان والمشاهد الذي لا يفصل بين الأجيال، إذ بدت معظم الشاشات الرمضانية تحديداً “مربّيات” الأطفال بصوره الجميلة، وكلماته المحببة وحركاته المتتابعة في البث.
هل وحّد شهر رمضان أجيال العرب أم وحّدتهم البرامج والمسلسلات والمآدب في عصرٍ من الإنقسام والتفسّخ الرهيب؟
هو الوحدة العربية الهجينة المستغرقة في مقابر النون من فلسطين إلى الأردن