مقالات مختارة

القناص الأمريكي: عندما يقلد الواقع السينما إبراهيم علوش

 

حقق فيلم “القناص الأمريكي”، الذي أشهر رسمياً يوم 16 كانون الثاني 2015، مئات ملايين الدولارات من العائدات على شباك التذاكر، 393 مليوناً بالتحديد حتى تاريخ 8 شباط 2015 حسب موقع IMDB المتخصص بالأفلام، ليصبح بذلك أكثر فيلم حربي أمريكي يحقق العوائد في مثل هذه الفترة القصيرة، وتأتي 78% من إيرادات “القناص الأمريكي” من داخل الولايات المتحدة، مما يحمل رسالة مهمة حول حالة الرأي العام الأمريكي اليوم: ففيما كانت أفلام حرب العراق وأفغانستان تفشل تجارياً في الولايات المتحدة في السنوات الفائتة، جاء فيلم “القناص الأمريكي”، الذي يحكي قصة العراق عبر منظار بندقية كريس كايل، أشهر قناص في سجلات البنتاغون حتى اليوم، ليوحي أن المواطن الأمريكي ربما يكون قد تجاوز عقدة العراق، كما تجاوز عقدة فيتنام من قبل، وأنه بات جاهزاً ربما لتدخل عسكري أمريكي جديد، في العراق أو في سواه .

على عكس فيلم “خزانة المصابين”، أو “خزانة الألم”، كما ترجم البعض The Hurt Locker، وهو فيلم أخر عن العراق مُنح جائزة أفضل فيلم عام 2010 بالرغم من فشله التجاري المريع، بقرار سياسي عملياً، فإن فيلم “القناص الأمريكي” الذي رُشح لست جوائز أوسكار حتى الآن لا يزال يشهد إقبالاً جماهيرياً كبيراً بعد أسابيع من إطلاقه، على الرغم من أنه يحمل الكليشيهات الهوليودية نفسها: التركيز على الضرر النفسي الذي يلحق بالجندي الأمريكي من جراء الحرب، لا على الدمار والقتل الرهيبين اللذين لحقا بالبلدان التي وطأها ذلك الجندي الأمريكي مثل العراق الذي لم يتعافَ حتى اليوم؛ تصوير كل عربي كجزء من بيئة معادية، باستثناء العربي الذي يعمل مترجماً للجندي الأمريكي، مما يبرر استهداف القناص كايل للنساء والأطفال العراقيين؛ إبراز تفوق الجندي الأمريكي المهني على أعدائه، وحلفائه، كما ظهر من مبارزة القناص كريس كايل مع القناص السوري “مصطفى” في العراق، الذي قيل لنا أنه نال الجوائز في الألعاب الأولمبية؛ إظهار مقتل أي جندي أمريكي في ملحمة من الشجاعة مقابل خسة وجبن وخبث ونذالة ووحشية أعدائه؛ جعل الحفاظ على حياة الجنود الأمريكيين الهدف النبيل والمقدس الذي يضطر كريس كايل اضطراراً لقتل المدنيين، الذين يتبين دوماً أنهم ليسوا بمدنيين، من أجل تحقيقه؛ إمرار مشاهد للجندي الأمريكي القاتل مع زوجته وأولاده واصدقائه من أجل إبراز جانبه الإنساني؛ وهكذا

الرواية السياسية للفيلم هي نفسها رواية المحافظين الجدد المعوقة منطقياً: هاجمنا العراق دفاعاً عن أنفسنا من الإرهاب! كريس كايل كان يحاول أن يكون “كاوبوي” يمتطي الخيول الجامحة في “الروديو” عندما شاهد تفجيرات السفارة الأمريكية في نيروبي مما دفعه للانضمام لمغاوير البحرية SEALS، ليجد نفسه ويستقر وليصبح قناصاً محترفاً هناك، وكان قد دربه أبوه وهو صغير على الصيد. أما اجتياح العراق، فجاء على خلفية أحداث 11 سبتمبر!!! يا للحماقة التي تكرست في أذهان ملايين الأمريكيين! أما حقيقة عدم وجود صلة بين النظام الوطني في العراق وأحداث 11 سبتمبر، أو حقيقة عدم وجود أسلحة دمار شامل، فلم يذكرهما الفيلم بشيء!!! لكن ماذا يهم؟! فالأمريكي غير المسيّس يستقي معلوماته عن التاريخ والسياسة والثقافة من هوليود!

الفيلم الذي يمجد ثقافة الأسلحة الفردية والقتل يعتمد في الواقع على مذكرات كريس كايل الذي ينسب لنفسه 255 عملية قتل بالقنص في العراق، فيما يعترف له البنتاغون بـ160 منها فحسب! فالفيلم مهدى لذكرى كريس كايل، الذي يعتبر أعظم قناص في تاريخ العسكرية الأمريكية، لكن الفيلم لا يمجد ذكرى كايل لأنه أعظم قناص فحسب، بل لأنه قُتل، ليس في العراق، بل في الولايات المتحدة عام 2013 على يد زميل سابق له في القوات المسلحة الأمريكية تجري محاكمته هذه الأيام. فالعنف في الولايات المتحدة ثقافة اجتماعية تبلورت مع تأسيس الدولة الأمريكية على انقاض السكان الأصليين واستعباد الأفارقة واحتلال أراضي المكسيك التي كانت تملك ولاية تكساس، التي يأتي منها كريس كايل، وغيرها من الولايات الأمريكية.

العنصرية أيضاً جزء لا يتجزأ من “تراث” الولايات المتحدة الأمريكية، وهي اليوم موجة عداء وكراهية ضد العرب بالأخص، مما يكرسه فيلم “القناص الأمريكي” بطريقة تربط العداء للعرب بالدفاع عن الوجود الفردي والجماعي الأمريكي. فهل شاهد كريغ هيكس فيلم “القناص الأمريكي” قبل أن يقوم بقتل رزان ويسر أبو صالحة وضياء بركات في مدينة “تشابل هيل” في ولاية نورث كارولينا الأمريكية؟ طلقة في الرأس لكل من يقف في طريق جندي أمريكي في العراق كانت العلاج الذي وصفه فيلم “القناص الأمريكي”، فهل جاء مقتل العرب الثلاثة في في “تشابل هيل” كمثال على تحول السينما إلى واقع؟ وإن لم يكن كريغ هيكس قد شاهد “القناص الأمريكي” وتأثر به، ألا يبقى مثل ذلك الفيلم مسؤولاً عن ارتفاع منسوب العنصرية والعداء للعرب والمسلمين في الغرب، مما يسهم بشكل مباشر بخلق أجواء تشجع على الاعتداء عليهم؟ لم تكن جريمة “تشابل هيل” الحادثة العنصرية الأولى ضد عرب في الولايات المتحدة خاصة، وفي الغرب عامة، بل نرى مثل تلك الجرائم في تزايد مستمر، لكن بينما يتحمل العرب مسؤولية إجرام داعش وأخواتها في الغرب، لا نرى العالم يحمل الشعب الأمريكي مسؤولية جرائم متطرفيه ضد العرب والمسلمين، ولا نرى الأصوات المستنكرة ترتفع لإدانة أفلام مثل “القناص الأمريكي” تشجع على العنف ضد العرب. على العكس، رأينا السيدة الأولى ميشيل أوباما تدافع عن فيلم “القناص الأمريكي”، وغيرها من السياسيين الأمريكيين، مثل المرشحة السابقة لمنصب نائب الرئيس سارة بيلين. أفلا يعني ذلك أن تشجيع العنصرية والعنف الناتج عنها بالضرورة يتم تبنيه على أعلى المستويات؟!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى