كيف أضاعت السعودية الفرصة التاريخية؟ د. ليلى نقولا الرحباني
تمرّ المملكة العربية السعودية اليوم بأصعب الأوقات وأحرجها في تاريخها الحديث، حيث تعيش تناقضات داخلية خطيرة قد لا يُكشف عن جميعها، كما تعيش تحديات أمنية خارجية وداخلية، تتمظهر في الخطر الذي يشكّله الفكر “الداعشي” في الداخل، وفي الجريمة الإرهابية التي حصلت في الإحساء هذا الاسبوع تزامناً مع ذكرى عاشوراء.
بدأت تحديات المملكة الفعلية منذ ما بعد أحداث 11 أيلول الإرهابية، حيث دخلت المملكة فترة قلق وتحديات لم تنتهِ لغاية اليوم، وذلك على الشكل الآتي:
1- مباشرة بعد 11 أيلول، ارتفعت الأصوات في الولايات المتحدة الأميركية تشير إلى أن الغالبية العظمى من الانتحاريين هم من المملكة السعودية، وساد حديث أميركي جدّي حول ضرورة تعديل المناهج التربوية والدينية السعودية، لاحتواء بعضها ظاهرة الإرهاب.
2- أعلن الأميركيون حربهم على الإرهاب وشنوّا حربين عسكريتين على كل من أفغانستان والعراق، وقد دعم السعوديون هذه الحرب لأسباب عدة، منها أنهم كانوا يريدون نفي صفة الإرهاب عنهم، بالإضافة إلى أنهم أساءوا التقدير، إذ اعتقدوا أن وجود القواعد العسكرية الأميركية في العراق سيشكّل تهديداً جديًا حقيقياً لإيران، وسيسرّع إمكانية التدخُّل العسكري وشنّ هجوم على الإيرانيين؛ كما كان يطمح السعوديون و”الإسرائيليون”.. لكن الهجوم العسكري الأميركي لم يحصل، بل على العكس؛ تحوّلت إيران إلى قوة إقليمية كبرى، وامتد نفوذها من العراق إلى لبنان، مروراً بسورية، بالإضافة إلى نفوذها في الخليج.
3- عاشت السعودية خطراً إرهابياً جدياً وحقيقياً في الداخل منذ عام 2003 ولغاية عام 2009، إذ انتشر الانتحاريون والانغماسيون في المملكة، وشنّوا هجومات إرهابية على الشرطة السعودية والأجانب، وأماكن التسوق وغيرها.
4- بعد موجات ما سُمّي “الربيع العربي”، شعرت السعودية أنها مستهدَفة بشكل جدّي، بعدما تساقط حلفاؤها الواحد تلو الآخر، وبعدما تبين أن الدومينو “الإخواني” فيما لو استمرّ سيمتد إلى الخليج، وسيطيح بالمملكة نفسها، لذلك حاربته.
5- وحين سقط المشروع “الإخواني” في حزيران 2013، شعرت السعودية بفائض قوة، فأرادت أن تستكمل الحرب حتى تُسقط المشروع المقاوم، بإسقاط إحدى أعمدته وهو النظام السوري، فتكون بذلك قد قضت على النفوذ الإيراني في المنطقة.
في هذه اللحظة بالذات أخطأ السعوديون، فلربما كانت لديهم اعتباراتهم الخاصة في سوء التقدير الذي وقعوا فيه خلال احتلال العراق، أو في أماكن أخرى، لكن في لحظة سقوط “الإخوان” بالذات، كان على السعوديين أن يتواضعوا، وأن يستغلوا الفرصة لفتح باب التسوية في الشرق الأوسط، من خلال دفع الأميركيين إلى مباركة التسوية بين النظام السوري ومعارضيه، لا أن يدفعوا الأمر إلى مزيد من التعقيد؛ بتشجيع الأميركيين على شن حرب عسكرية أخرى في المنطقة بذريعة الكيمائي السوري، والدفع إلى مزيد من القتل والدمار والإرهاب، وتدمير دولة عربية أخرى.
أضاع السعوديون فرصة تاريخية كان يمكن استغلالها لإنقاذ سورية والمنطقة من أتون الدمار والنار، وبدل أن يلبس الملك السعودي دور الأب الأكبر للدول العربية التي كانت – وما زالت – تعيش كوارث حقيقية نتيجة طموح “الإخوان” للتسلط على السلطة، فيسعى إلى رعاية تسويات، وتمويل الإعمار والنهوض باقتصاديات هذه الدول، سارع السعوديون إلى دفع الأمور إلى مزيد من التصعيد، وخرجوا عن طورهم، فاستمرّ الموت والدمار والإرهاب حتى وصلت شظاياه إلى لبنان بظاهرة الانتحاريين الغريبة عن هذا الوطن.
لطالما اعتمدت المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية على مقولة كلاوزفيتز “الحرب هي امتداد للسياسة، ولكن بوسائل أخرى”، بمعنى أن الحرب لا تُشَن إلا لهدف سياسي، وإذا كان من الممكن تحقيق هذا الهدف بغير الحرب فلما لا يكون ذلك.
الواضح أن الصراع السُّني – السُّني هو على قيادة العالم العربي، وكان بإمكان السعودية أن تصل إلى قيادة العالم العربي لو استخدمت السياسة العربية المعروفة بالمصالحة والمصافحة والرعاية المادية والسياسية.. لو استغلت المملكة الفرصة ورعت مصالحة تاريخية سورية، ودفعت الأميركيين إلى تسوية مقبولة في المنطقة، لا تستثني أحداً وتقبل الآخر، وتكرّس كلاً من إيران والسعودية قطبيْن إقليمين يحكم كل منهما حيزاً خاصاً يدين له بالولاء التاريخي والمذهبي، لوفّرت على الجميع نتائج هذا الصراع السُّني – السُّني، وهذا التوحُّش “الداعشي”، وحققت أهدافها من خلال فرض نفسها قوة إقليمية يُحسب لها حساب.