كوريا وإيران وإدارة ترامب
غالب قنديل
إنه زمن الانقلاب الكلي على البراغماتية في واشنطن والتركيز على استنفاذ أساليب استعمال القوة والتهديد مع سيطرة حفنة من المتطرفين والمتهورين من الأطقم العسكرية والدبلوماسية في المؤسسة الحاكمة على مقاليد القرار في إدارة دونالد ترامب التي تظهر مزيدا من الصلافة والعنجهية في التعامل مع الملفات الأشد إثارة في الواقع الدولي وخصوصا في سلوكها اتجاه كوريا الشمالية وإيران.
الحصيلة ان العالم ذاهب نحو المزيد من الصراعات والتوتر على جميع الجبهات التي تشهد حروبا باردة او تشتعل فيها معارك وحروب بالواسطة وتشمل تلك الساحات كل مكان من الكرة الأرضية يحرك شهوة النهب والهيمنة في واشنطن لصالح الشركات الكبرى المتعطشة للمال والدم وجماعات الضغط المشرعة وفق النظام السياسي الأشد فسادا في العالم.
قمة التفاوض المقررة سابقا مع الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ اون في سنغافورة ترنحت يوم امس وهي باتت مهددة بسبب خطوة استفزازية مثلتها المناورات الأميركية المشتركة مع كوريا الجنوبية وقد اعتبرتها بيونغ يانغ عملا عدائيا وقرعا لطبول الحرب يعاكس العمل على إنتاج التفاهمات الممكنة.
جاءت جرعة التصعيد الأخطر على لسان مستشار الأمن القومي الأرعن جون بولتون الذي اعتبر هدف التفاوض مع كوريا الشمالية محاكاة للمثال الليبي أي نزع الأظافر تمهيدا للاحتلال والتدمير ما استدعى ردا سريعا وقاسيا من وزير الخارجية الكوري الذي استرجع عبرة الغزو العسكري لليبيا والعراق الذي سبق ان اعتبره الزعيم كيم جونغ اون برهانا على حقيقة ان لا حماية للشعوب والدول سوى بامتلاك القوة الرادعة التي تمنع المتغطرس الأميركي من شن الحروب العدوانية وكان مسار التجارب النووية الكورية الشمالية التصاعدي تجسيدا لهذا المنهج وهو ما املى على واشنطن تبني خط التفاوض مع بلاده.
كيم جونغ اون يتبنى اقتراح تسوية محورها فكرة نزع متزامن ومتواز للسلاح النووي في شبه القارة الكورية وبولتون يتحدث عن نزع سلاح الشطر الكوري الشمالي وشتان بين المنطقين.
ان انقلاب الولايات المتحدة على الاتفاق النووي الإيراني وجه رسالة مشحونة بالقلق إلى القيادة الكورية فحتى حين توقع الولايات المتحدة على اتفاقية دولية يمكن ان تتراجع بدافع نهجها الاستعماري المتسلط أوحين يقع تغيير سياسي في مواقع القرار التي تعيش اضطرابا خطيرا نتيجة الهزائم والأزمات المتلاحقة.
الأخطر في عبرة الملف الإيراني ليس فحسب عدم وجود ضمانة تحمي التعهدات والاتفاقات التي توقعها الولايات المتحدة بل أيضا افتضاح عجز اوروبا عن تقديم التزامات واضحة تكفل استمرار العمل باتفاقية دولية بعد الانسحاب الأميركي منها وهذا ما أعلنته المجموعة الأوروبية يوم امس بنتيجة اجتماعاتها المطولة بوزير الخارجية الإيراني الدكتور جواد ظريف فرغم ابداء التزام ألمانيا وبريطانيا وفرنسا بالاتفاق النووي اكد وزراء خارجية الدول الثلاث عدم قدرة حكوماتهم على توفير الضمانات اللازمة لصد الضغوط والعقوبات الأميركية بينما طالبوا إيران بمزيد من الضمانات والتسهيلات لشركاتهم ولم يقدموا لها سوى التزامات كلامية غير محسومة الاتجاه ومن دون تعبيرات عملية لأنهم مقيدون وبمشيئتهم بهوامش ضيقة للتحرك سمحت بها الولايات المتحدة ورغم ذلك تسعى إيران وروسيا والصين لاستخدام تلك الحوافز الممكنة في بناء موقف دولي مناهض للانقلاب الأميركي على الاتفاق النووي وبما يكفل استمرار العمل به وفق الشراكة الدولية الممكنة وهو ما تعتبره واشنطن نجاحا روسيا في سلخ الغرب الأوروبي من معسكرها وإضعافا لفكرة حلف الغرب عبر ضفتي الأطلسي لصالح نظرية أوراسيا التي تتبناها موسكو.
الإدارة الأميركية تدفع نحو التصعيد على جميع الجبهات وهي تخلت بفظاظة عن براغماتية التسويات التي راهن عليها كثيرون كنهج أميركي ثابت وما زالوا. من الواضح وفق الحداث والوقائع ان التصعيد والصراع لا التسويات هو جوهر النهج الأميركي من مسار الحرب على سورية واليمن والعقوبات ضد روسيا والصين وإيران وقوى المقاومة في المنطقة العربية ومن تهديد فرص التفاوض مع كوريا الديمقراطية وعبر دعم المذابح الصهيونية في فلسطين المحتلة ودفع الحكومات العميلة في المنطقة العربية لمكافأة الكيان الصهيوني بعلاقات اقتصادية وسياسية وامنية يريدها الأميركيون تحالفات معلنة في جبهة واحدة ضد محور المقاومة والقوى التحررية الحية .
هذه الإدارة التي هي مثال العنجهية المتنمرة والمقايضات التجارية المبتذلة هي عمليا الصورة الفعلية والواقعية للإمبراطورية الاستعمارية الأميركية من غير مساحيق او قفازات وعلى هذه الحقيقة تبنى إرادة التحرر والمقاومة بلا مهادنة او اوهام.