إنتخابات البرلمان بين الجدران والزعرا…فالأذهان والأوطان الدكتور نسيم الخوري
إنتابنا شعور، ونحن نفرغ من كتابة الفصل الأخير من الإنتخابات البرلمانية في لبنان ، وكأنّه لا لزوم لإدراج “خاتمة” مباركات مريحة ومطمئنة وتغييرية تشي بمستقبل الديمقراطية، لأن الحكمة تقول أنّ لا جدوى منها، لأسباب متعدّدة قد لا تلغي ضرورتها:
أولاً، لأنّ الفصل المذكور، وهو يسلّط الضوء على تحوّلات المرشحين والسلطات الثلاث بهيام مفرط نحو الاعلام بما تجاوز القوانين الخاصة بهيئة مراقبة الإنتخابات ونسف فترة الصمت الإنتخابي المحترمة للرأي العام في البلدان الديمقراطية، والانهيارات المذهبية والتخاطبية المخيفة التي أتاحها عصرالعولمة وأدواتها السائبة، قد طغى على المشهد الحضاري بشكل عام وإنتظاراته، وربّما تجاوزه، وهو يصلح لأن يكون مشروع “خاتمة” مبدئيّة حزينة لكنها مفتوحة على الكثير من الإلغام والإسقاطات وخيبات الأمل في المستقبل. ينقلنا هذا الفصل من زمن خاص بلبنان إلى زمن مكشوف وواسع ومنتشر أعمّ وأهذب شكلاً، مختلف عنه ومغاير له كلياً. يضعنا أمام تفكيك الفلسفة الديمقراطية وهواجس نسفها أو تشوهاتها بعد انتقالها إلى هاجوج الشاشات وماجوج الساحات بما أشعل الأضواء لأبواب الغرائز المكبوتة وفصول الفلتان الأخلاقي والوطني بما يجعلك تحنّ الى عهود الصحافة والطباعة والكتابة التي كان يدرك الجميع الحكمة في أرحامها وهي تبدو الآن فالتة من أي ضابط أو سلطان أو لسان.
ثانياً، عاش اللبنانيين والسفراء والقناصل وجمعيات المراقبة القلق الهائل في انهيارات التخاطب القائم بين كتل ولوائح عجيبة وغريبة للمرشحين قاربت الألف. تذكّرنا هذه بغريب وعجيب ألف ليلة وليلة التي قضى المستشرق الفرنسي عمره في جوفها ولم يخرج. هل البرلمان شركة خاصة أو إدارة أو حيّز سريع ورخيص لوظيفة يفترض الوصول إليها بشتّى الوسائل؟ ماذا يعني شراء هويات الكثير من الناخبين المحتاجين لرغيف الخبز وحجز/حجزهم لإعادتها لهم بعد الإنتخابات كي لا يقترعون فتحصر النتائج لنفهم معنى الإقبال الضعيف على صناديق الإقتراع في العديد من المناطق؟ كيف إلى ضياع المحاضر وبعض الصناديق أو إستبدالها أو إجبار المقترعين على إستخدام الأقلام الموجودة في غرف الإقتراع حصراً وشيوع الفكرة بأن الحبر المستخدم فيها ستختفي آثاره بعد ساعتين من إستعماله فتحتسب الأوراق بيضاء لاغية؟ أسئلة طويلة تحتاج لأبحاث طويلة ومناقشات هادئة في مستقبل الديمقراطيات العربيّة المستوردة التي ما زالت طرية في الثمانين.
ثالثاً، يدفعنا المشهد إلى التفكير بخطورة إسقاط الربط بين الثقافة والديمقراطية في مستقبل الحكم ، والكفّ عن اعتبار الرأي العام نقيصةً يمكن عجنها بين الأصابع المختلفة إلى الأبد. يمرلبنان في مرحلة إنتقالية دقيقة لا تسمح لنا أن ننظر بعين الرضى إلى النتائج فنتغاضى عن سلاسل من انهيارات وطنية إقتصادية ومذهبية وحزبية فاقعة لا يخرجنا منها سوى قانون أحزاب عابرة لها في بقعةٍ صغيرة من إختلاط يومي وزواج مختلط واسع وأبواب مفتوحة على الغير في قارة السياحة السادسة في العالم. لبنان منصة إقليمية مستمرة لمراقبة المحيط وساحة إعلامية وتعبيرية مفتوحة بما يتجاوز تاريخه في عالم من المتغيّرات والانهيارات التي تخلّفها الثقافات المتواترة. هناك مخاطر تجمع المعتقدات والمعرفة والأخبار والمعلومات في سلطاتها الفوريّة ووقعها على الناس. إنّها معلومات تظهر وكأنّها لا تدحض، سواء كانت نصوصاً مقدسة تاريخياً أم “إلكترونية” مستلّة من بنك للمعلومات. تسقط الشكوك إذ يدعم أحدُهم رأياً له قاطعاً بما رآه على الشاشة، بعدما كانت حججه الاقناعية، مبنيّةً على المكتوبة حتى الصحافيّة منها، وكان قبلاً يدعمه بوصايا إلهية.
رابعاً، أفرغت سلطات الزعماء الأسطورية Mithos رغم الصور العملاقة Imagos المطعّمة بالكلمة الإغريقية Logos. الجدار شيء والواقع شيء آخر. فشل جمع بيروت وإسبارطة أو باريس أو لندن أو حتّى دبي في مشهدٍ أو كيس واحد. إستعصى ترسيخ بصر اللبناني في أعقاب قراءة الشعارات البصرية كعنوان يصلح للبحث عن لبنان الجديد. سحبوه من المواطنيّة إلى العالميّة، فلم يعد مواطناً بل مستهلكاً (بكسر اللام وفتحها) “خاضعاً” لسلطات الإعلان وخداعها في خضمّ من الصور الجذابة الفارغة ، لا مساواة فيها، لكنها صور تعجّ بالفوقيّة والبراعةً التقنيّة لا بالكفاءة والمقدرة والعمل والنظافة.
أمس، خرج لبنان فقيراً في سلطات التشريع ومفتقراً ألى المنظومات الوطنية حيال طغيان تسليع حاجات اللبنانيين الكثيرة وطمس قفزاتهم في مشاعيات المعرفة وإختيارات المصادفة والمال. تذوي لمعة السلاطين في الصور فوق أنقاض الفكر والروح وقد لا يبقى منها سوى بريق النجوميّة السريعة الذوبان الجاهزة لتشويه الفكر والبطولة والقداسة في ضمان المستقبل. زارع الكلام غير باذره في العواصف الهوجاء وفالش الصور فوق الجدران غير حافرها في الأذهان وثائق وبرامج في نهضة الأوطان.