“مليشيات الصدم” القواتية: إيلي الفرزلي
قد يكون المال الانتخابي أمراً شائعاً في كل لبنان، لكن ما يحصل في زحلة ربما لا شبيه له. تلك المأساة تسمى زوراً انتخابات وتصنف في خانة ممارسة الديموقراطية. شراء الأصوات كان علنياً، لكن القوات اللبنانية قرر إحياء «فرقة الصدم» الميليشياوية، لتنفّذ «غارات» متنقلة استهدفت «القضاء على عمليات الرشوة»، لكن ربما فاتها أن في لائحتها مشاركين في شراء الأصوات أيضاً
كانت مدينة زحلة في نهار الانتخابات الطويل أقرب إلى أن تكون سوق أحد. سوق لا سلع فيه سوى أصوات الناس، التي يفترض أن تكون حرة. الشراء في العلن، ولا أحد بريء من التهمة، لكن مع ذلك لا بد من الحصر. بين أحياء زحلة تتكرر أسماء أكثر من غيرها. نقولا فتوش، ميشال ضاهر، ميريام سكاف. في المكاتب الانتخابية للمرشحين تتم عمليات البيع على عينك يا تاجر. ثمة من يستغلون حاجة الناس، فيذلونهم، ليشتروا ذممهم.
في اليوم الانتخابي صار البيع بالمفرق. وبعدما أنجزت الصفقات الكبيرة في أوقات سابقة، صار المرشحون يتبغددون على الناس. ما كان متاحاً قبل الأحد لم يعد كذلك. وصل العرض إلى مئة ألف ليرة فقط. لكن التفاوض يمكن أن يحسّن المبلغ، خصوصاً إن كان البائع يمون على عدد كبير من الأصوات. البعض لا يتردد بالبحث عن السعر الأفضل. يمر ناخب على أكثر من خيمة مندوبين قرب المراكز الانتخابية ليسأل عن سعر الصوت. في مكتب انتخابي يساعد شاب في ماكينة انتخابية سيدة كبيرة بالسن. يرشدها على الطريق الأفضل لبيع صوتها. يلقنها ماذا يجب أن تقول لمسؤول المكتب حتى تنال السعر الأفضل. ثمة عمل مشبوه يجري في المكتب. الأمر ظاهر للعيان. يدخل الغريب فيتحلقون حوله. لا يريدون شيئاً سوى حجب المشهد بلباقة. يعرفون أن ما يجري معيب وغير قانوني… لكنهم يعرفون أيضاً أن العقاب لن يطاولهم. ربما يخجلون.
في مكتب لمرشح ثان يتكرر المشهد. العائلة في السيارة، فيما الأب في المكتب ينجز العملية. بلطف شديد يدردش مسؤول في المكتب مع السيدة التي في السيارة. يسألها أنت التي كنت مسافرة أليس كذلك؟ وعندما تومئ بالإيجاب، يبتسم ويرحل.
في مكتب رابع. تمتلئ القاعة بالناس بعد الظهر. لا يبدو هؤلاء من المريدين أو من الأصدقاء. ينتظرون بحياء شديد أمراً ما. عند سؤالهم يبادرون برد تهمة لم يتهموا بها. نحن لا نريد الأموال بل نحن أصدقاء من زمان مع المرشح.
«عشيرة حوش الأمراء» في القوات، على ما تشير اللافتة المرفوعة، حاضرة للعمل كمطاوعين. يلبسون الأسود جميعاً. وعلى ظهورهم صورة لجمجمة تلبس البيريه الحمراء محمولة بجناحين. في أسفلها مرساة وفي أعلاها قنبلة يدوية وحربة. تحت الصورة كُتب: «حيث لا يجرؤ الآخرون». الصورة والكلام يمثلان شعار «فرقة الصدم» في ميليشيات القوات أيام الحرب الأهلية. كان هؤلاء الشبان متوترين منذ الصباح. خصومهم يتهمونهم بتنفيذ أمر عمليات، زهم كلما سمعوا أن فلاناً يشتري الأصوات، هاجموه في مكتبه أو منزله. يريدون «مكافحة الرشوة» بأيديهم. قيل إن “عملياتهم كانت منظمة وتستهدف ميريام سكاف بالدرجة الأولى ونقولا فتوش بالدرجة الثانية، قبل أن تتركز الحرب على سكاف». الهجوم الأول نفذ على منزل يوسف سكاف أحد مسؤولي ماكينة الكتلة الشعبية والمرشح السابق لرئاسة البلدية. لا ينفي عضو قسم حوش الأمراء في القوات جوزف داريدو أنه مع عدد من أعضاء القسم هاجموا منزل سكاف، لكنه يوضح أن الكيل قد طفح من كثرة الأموال التي تُدفع، فيما الدولة واقفة تتفرج. يؤكد أن المجموعة المهاجمة ضبطت بالفعل أموالاً، ويجزم أن الصوت يباع بـ٢٠٠ دولار. ليوسف سكاف رواية ثانية: هاجموا المنزل اعتدوا علي بالضرب، موضحاً أن المكتب مخصص للأمور اللوجستية المتعلقة بالماكينة الانتخابية. قال سكاف إن الزعران هاجموا امرأة كانت في المكتب واستولوا على حقيبتها، ثم أفرغوها قبل أن يتبين أنها فارغة من المال.
لكن أحد مرشحي القوات ليس سوى قيصر المعلوف. ألا يدفع الأموال؟ يجيب القواتي، لا. قبل أن يتراجع عن إجابته بتأكيد أنه لا يدفع بمقدار ما يدفع غيره.
فرقة «المطاوعة» لم تهدأ. ظلت على نشاطها طيلة النهار وكان هدفها الأول مكاتب الكتلة الشعبية في أكثر من منطقة. عند الظهر، مرت دورية مؤللة من مخابرات الجيش أمام تجمعهم. نفذ عناصرها استنفاراً وألقوا القبض على شخصين، على ما يؤكد شباب القوات. العراضة الأمنية لم تستثن الصحافيين أيضاً. كل من رفع كاميرته سمع تأنيباً وصراخاً.
القواتيون لم يهدأوا. ازداد توترهم. أحدهم وقف في وسط الشارع، بعد ابتعاد العناصر الأمنية، شاتماً ومتوعداً، ورافضاً الانصياع لطلبات زملائه بالهدوء. عنصر آخر: قال كلهم ضدنا. الله ضدنا.
سريعاً جاء الدعم من المرشح جورج عقيص الذي حضر للاستطلاع. أصر على احترام الصمت الانتخابي أمام الكاميرا، لكنه توجه للمناصرين بالقول إن اليوم الذي كان يفترض أن يكون يوماً للديموقراطية تحول إلى يوم مشؤوم، واعداً بفضح كل شيء بعد انتهاء فترة الصمت الانتخابي. يؤكد عقيص أن لدى القوات وثائق تثبت دفع الرشاوى.
ميريام سكاف منفعلة جداً. تردد “يا عيب الشوم” مراراً. تصرخ “هناك حملة ممنهجة ضدنا” من قبل “زعران القوات»، الذين يعتدون على منازلنا ويكسرون سيارات “جماعتي». تقدمت الكتلة الشعبية بشكاوى ضد المعتدين ولكن لا حياة لمن تنادي، تقول سكاف. لم تكن تمر ساعة إلا ويسمع فيها عن مشكلة أحد طرفيها دائماً فرقة الصدم، التي طبعت النهار الانتخابي الزحلاوي بطابعها.
المعركة قاسية على المقعدين الكاثوليكيين. هي معركة حياة أو موت بالنسبة لميريام سكاف ونقولا فتوش. وهي معركة تأكيد زعامة القوات في زحلة، التي تصر على أن تتمثل أولاً بالمقعد الكاثوليكي عبر عقيص وثانياً بالمقعد الأرثوذكسي عبر المعلوف. حسابات القواتيين تشير إلى فوز الاثنين، لكن الكل يدرك أن ذلك سيكون صعباً. صاحب “ماستر شيبس” (ميشال ضاهر) ينافس على المقعد الكاثوليكي أيضاً. لديه “رؤية وطن»، على ما تشير اللافتات المرفوعة في المدينة، ولأنه يريد تحقيق هذه الرؤية لا يمانع دفع ثمن المقعد النيابي! للمناسبة تتميز مكاتب الضاهر عن غيرها بتوافر صناديق البطاطا المقرمشة. “ماستر شيبس” تنتخب أيضاً.
المعركة الكاثوليكية لا تعني حزب الله والمستقبل كثيراً. تعنيهما فقط من باب زيادة الحصة النيابية. في الكرك وعلي النهري كما في سعدنايل، الهدوء سمة الانتخابات. مع ذلك يشكو النائب عاصم عراجي من عدم نجاح «المستقبل» في توزيع الأصوات في شكل مناسب. المشكلة الأكبر لدى التيار الأزرق هي في نسبة التصويت المتدنية عند الطائفة السنية (عادت وارتفعت بشكل ملحوظ خلال الساعة الأخيرة، وإن لم تصل إلى نسبة العام 2009 التي بلفت 71 في المئة). فبعدما كان التفاؤل كبيراً إلى حد الاعتقاد بقدرة التيار على توزيع الأصوات على ثلاثة مرشحين (عراجي ونزار دلول وأن ماري جان بيلازكجيان)، تخلى سريعاً عن دعم دلول، مفضلاً التركيز على مرشحين اثنين.
(الاخبار)