لبنان الجديد جميل ننتظره لكنّه: إبرة صدئة ضائعة في قفّة من تبن العفن السياسي الدكتور نسيم الخوري
لو تجوّلت في شوارع بيروت وساحاتها وعاينت صور المرشحين الكثر على جدرانها ومعظمهم من الوجوه القديمة الشائخة والشابة والنسائية والإعلامية تحديداً لوقعت أسير ظاهرتيبن:
الظاهرة الأولى: يبدو لبنان المقيم في هذا المسرح الإنتخابي البرلماني الواسع والمخيف وكأنّه يمرّ في مرحلة إنتقالية ضخمة. يعني الإنتقال بالضرورة التحول من نقطة إلى أخرى أو من زمن إلى آخر. ويفترض أن يحمل الإنتقال بالحدّ الأدنى ملامح تغيير أو تجديد بسيطة تضفي على الصورة لوناً أي وجهاً جديداً. طبعاً يفترض الإشارة إلى أنّ الإنتقالية تطاول الطبقة السياسية بالكامل منقوع بالفساد والإهتراء الكامل. لماذا؟
لسببٍ جوهري مردّه إلى أن الأحزاب اللبنانية الضخمة والعريقة والكثيرة التي أمسكت أو تقاسمت البرلمان والوزارات والإدارات والحياة السياسية في لبنان قد باخت وسقط مؤسسوها أو زعماؤها في الشيخوخة إلى درجة أنّها تعيش كلّها في مستنقع من الأسئلة المقيتة همساً وسرّاً عن مستقبل تلك الأحزاب في الآتي من الأيام. نعم هناك أسئلة شعبية وإعلامية مطروحة علناً وعلى مستوى الطوائف والمذاهب في لبنان كالقول مثلاً: ما هو مستقبل الشيعة والمسيحيين بعد حزب الله وحركة أمل و التيار الوطني الحر في المستقبل؟
قد تأخذ هذه الأسئلة مشروعيتها من أسئلة مشابهة سبق أن طرحت من قبل حول مستقبل حزب الوطنيين الأحرار بعد كميل شمعون وحزب الكتلة الوطنية بعد ريمون إده. تطرح هذه الأسئلة وأخرى كثيرة مشابهة وأكثر تعقيداً لخمسة أسباب:
أولهما إخفاق المسؤولين عن الأحزاب والحزبيين في إخراج الأحزاب من قمقم الشخص الواحد وإخفاق إقناع هذا الشخص الواحد من ضرورة التغيير والتطوير في أكثر من مجال حيوي لا داعي لتعدادها وتبدأ بأبسط الحقوق العادية للمواطن وأدناها حق الحياة بكرامة. وثانيها إخفاق المحازبين من الإعتراض وتغيير بنى الأحزاب الشخصانية وإخفاق الكلّ في تغيير معايير الدفع بالشخصيات نحو السلطات على قاعدة الكفاءة والنجاح والقدرة المعاصرة على التغيير وتجديد صورة الأحزاب السوداء القابضة على لبنان.
وثالثها غياب كامل أو إخفاق حتمي لفكرة ألأحزاب العابرة للطوائف أو الجامعة لها في غرفة واحدة، حتى أن الأحزاب العلمانية اليتيمة كالحزب القومي الإجتماعي صار حزب الشخص الواحد ومقيم في قلب التقاسمات والتحالفات المذهبية.
ورابعها إعراض الكثير من أخيار لبنان عن السياسة والبحث عن أوطانٍ أخرى غير لبنان، والنجاح فيها والوصول إلى ما يتجاوز البرلمان. لسنا هنا لنعدد الوزراء والنواب والرؤساء القابضين على أعلى مراتب العالم السياسية في محافل العالم.
وخامسها أننا نشهد لإنتخابات برلمانية تغمرها ردود الأفعال الصاخبة والغاضبة سواء من المرشحين العاديين من الناس الذين باتوا ينظرون إلى البرلمان وكأنه مدرسة إبتدائية للتعليم أو شركة كهرباء للكراء، مثلهم مثل أبناء وبنات وأحفاد السياسيين الذين خطفوا لبنان وأودعوه في غرفهم وعقولهم وجيوبهم. طبقة من الشباب لا تعرف حدّها لتقف عندها لكنها طبقة الطامحين إلى التغيير وفقاً لما ولّدته وسائل الإعلام وعصر العولمة من فايسبوك وتويتر ولقمطة حكي ووشوشات وربيع العرب والمجتمعات المدنية والجمعيات الدولية ودخول الخارج المباشر إلى الحياة الإجتماعية اللبنانية عبر ملف النازحين السوريين والتخطيط والتشجيع للشباب والشابات على خوض الترشح والإقتراع والتحدّي ورفع الصوت في الحقوق والواجبات ومحاربة الفساد والفاسدين. لبنان الجديد مثل إبرة في قفة من تبن.
المذهل هو التحالفات الغريبة العجيبة بين المتخاصمين جذرياً وإستراتيجياً في إختيار المرشحين أو جمعهم صورياً في لوائح فرضها قانون إنتخابي لامس النسبية لكنه إستغرق في المفاضلة المذهبية التي ستبعد الطوائف والمذاهب والمناطق مسافات عن بعضها البعض. لقد إستهلكت الدولة برامج وميزانيات لتلقين المواطنين كيفية اللعب باللوتو قبل تشريعه وبسطه، وهي تدخل اللبنانيين إلى النسبية ومعظم المرشحين لم يتعلّموا بعد كيفية الإقتراع أو إحتساب النتائج. ينصاع اللبنانيون إلى صيغة تكرّس مقدّسات الطوائف التي تبدو وكأنها تسحب لبنان بسرعة فائقة نحو ما يشابه تجدد الحروب أو نحو تجديد الكلام عن التقسيم والشرذمة والخوف من أسباب قد تحول دون إجراء الإنتخابات بسلام. كان آخرها ما جرى من أحداث مقلقة في زحلة والطريق الجديدة من بيروت في التعدّي على بعض المرشحين.
الظاهرة الثانية يمكنني في هذا المجال الطريف والمضحك تقديم أسماء ووقائع لكنّ المقام والإحترام يحولان دون ذلك. هناك تلازم ملحوظ للبذخ الهائل والميزانيات الضخمة وشراء المقاعد كما الأصوات مقابل الشح المدقع في إبراز صور المرشحين وحملاتهم وعدتهم الإنتخابية. قد تجد مثلاً مرشّحاً إلى البرلمان قد طلس وجه الأبنية والأحياء وحجب النظر بصوره الضخمة وشعاراته وحكمه الكبرى المنسوخة عن كتب الحكم القديمة لمن يعرف، مقابل مرشّح آخر لم يجد سوى شرفة منزله العتيق في البناء المشقق لرفع صوره التي لا ترى بالعين المجردة من بعد، بالرغم من إنتقاد زوجته له لهذه المغامرة غير المحسوبة نتائجها كلّما جلسا على الشرفة لتناول قهوة الصباح. قد تجد قوافل من العمّال السوريين الموكل إليهم تعليق حمل السلالم وإعتلاء الشاحنات الضخمة لرفع الصور والشعارات وقد تجد مرشحاً أو مرشّحةً تتناول سطل الغراء بنفسها من صندوق سيارتها المتواضعة وتروح يساعدها عامل سوري جائع بإلصاق صورها الصغيرة أو حشرها في الزوايا. مرشح يحوّل دنياه إلى مآدب عشاء وتخمة الوطن والكرم الجاذب للغير وكلّما تحرك موكبه هرب الناس إلى الأرصفة والبيوت وأحكموا غلق أبوابهم وكأنّ الحروب قد حلّت من جديد. بالمقابل تجد مرشحاً يذهب سيراً إلى ناخبيه وفي المساء يذهب إلى تناول القهوة في مقهى الروضة على شاطيء البحر، يلعب النرد، ويساير الناس، وعندما تتعب أنامله من السبحة ينام ليعاود نهاراً جديداً من النقد والصراخ الذي لا يبلغ شحمة أذنه.
سابعاً وأخيراً بات مستحيلا جدّاً على اللبنانيين تعداد مراحل الإنتقال وأحلام الجديد وإنتظارالتغيير بعدما إستيقظوا وبُحت حناجرهم صراخاً على الحرية والسيادة والإستقلال والعدالة والمساواة ومحابة الفساد والسرقات وإندفعوا بحماس على طريق البرلمان .