مقالات مختارة

بين الأفارقة وغزة: تسفي برئيل

 

كم عدد الفلسطينيين الذين قتلوا في يوم الجمعة الأخير؟ وكم قتل منهم في يوم الجمعة الذي سبقه؟ وكم هو عدد الجرحى؟ عندما تتحول الاحصائيات إلى صورة للانتصار يمكن للجيش الإسرائيلي أن يسجل لنفسه نجاحاً باهراً. فقط 29 فلسطينياً قتلوا ونحو 1300 أُصيبوا ولم يقتل أي إسرائيلي ولم يتم إخلاء أي مستوطن، جدار الفصل بين قطاع غزة وإسرائيل بقي على حاله، بنادق القناصة قامت بالعمل بشكل جيد، ولم يحتج الأمر إلى تدخل الدبابات أو المدافع. في يوم الجمعة القادم سيتم تجديد التوجيهات للحفاظ على طهارة السلاح وأخلاق الجيش وعدم الانحراف عن حجم القتلى والجرحى الذي اعتدنا عليه .

في الاسبوع الثالث لـ «مسيرة العودة» من الستة أسابيع المخططة، فإن الدراما آخذة في التلاشي. كل ما في الامر هو أن حوالي 20 ألف شخص من بين مليوني شخص من السكان شاركوا في المسيرة. الهجوم الكبير الذي حذر منه الجيش تحول إلى عرض نهاية الاسبوع. الضفة الغربية ما زالت هادئة، وفي الدول العربية لم يتم الابلاغ عن خروج الجماهير للتظاهر. الطريقة تعمل والانتصار مؤكد. وطالما أن نظرية إسرائيل هي أن الوضع الراهن الذي ساد قبل التظاهرات هي الهدف المأمول، فليستمر الحصار، ليس لأنه يمنع الإرهاب، بل لأنه يمثل عظمة دولة إسرائيل وقدرتها على الحفاظ على «الوضع الطبيعي» في غزة، الثمن ليس مرتفعا، صحيح أنه أكبر، لكن ليس هناك تدفيع ثمن إسرائيلي.

ولكن الثمن ضخم: جبايته تتم بدفعات مريحة على مدى سنين. تقريبا منذ 11 سنة والمجتمع الإسرائيلي يوافق على وجود مليوني فلسطيني قريبا منها، على شفا الكارثة الإنسانية. تصحيح «لا توجد أزمة انسانية»، كما يحرص رئيس الاركان آيزنكوت على القول. هناك ادوية وغذاء. وليس هناك أحد يموت من الجوع، بل من رصاص البنادق. غزة ليست سوريا وليست الصومال، غزة تخنق بكيس من النايلون على رأسها، لكننا سمحنا لها بثقب للتنفس. حتى لو كان يوجد نقص كبير، فإن حكومة إسرائيل تقنع نفسها بأنها ليست المذنبة، بل حماس.

إسرائيل أيضاً ليست مسؤولة عن المذبحة في سوريا أو عن الازمة الإنسانية التي يغرق فيها المواطنون السوريون، لكن على الأقل أجزاء من المجتمع الإسرائيلي مستعدون لاظهار التعاطف مع هذه المعاناة. حتى لو أن هذا التعاطف يتم التعبير عنه فقط بطرقعة اللسان. الإسرائيليون يتطوعون للمساعدة في كل الاماكن النائية في العالم، لاخلاء الانقاض التي خلفتها الهزات الارضية أو إرسال الأدوية للمحتاجين. ولكن في غزة لا يعيش بشر يريدون التعلم، أو كسب الرزق وتربية أطفالهم. في غزة تعيش بنادق، هكذا تشرح الحكومة لمواطنيها عقيدة الاخلاق. في غزة تسكن قنابل، عبوات ناسفة، أنفاق، سلفيون وقتلة، هذه أرض العدو، التي سكانها لا يستحقون ذرة من التعاطف الانساني.

الأرواح الإسرائيلية الطيبة مستعدة للخروج والتظاهر من أجل استمرار بقاء حوالي 30 ألف طالب لجوء في البلاد، لكن متى جرت تظاهرة هامة من أجل أطفال غزة؟

في تركيا، المحكومة من قبل طاغية والتي أي تعبير فيها عن انتقاد النظام من شأنه أن يجر إلى عقاب شديد، خرج مواطنون اتراك للتظاهر ضد غزو عفرين في سوريا. وعدد كبير آخر يتظاهرون من أجل المصالحة مع الاكراد الذين يعتبرون من قبل النظام التركي مجتمعاً إرهابياً. ولكن في إسرائيل المجتمع محبوس داخل نفسه إلى أن تعفنت القيم الإنسانية وتلاشت.

النظام الحاكم في إسرائيل لم يعد يتوجب عليه تهديد من يتجرأ على التعبير بشكل قليل عن تعاطفه مع سكان غزة. المجتمع حفر لنفسه الحفرة القذرة التي يسبح فيها وهو مسرور. هذا مجتمع يهتز ازاء أي فساد من قبل حكامه، ويعرف بالضبط كم أدخل زعماؤه من النقود إلى جيوبهم، ويريد أن يراهم معلقين على المشانق وفوراً. ولكن المادة الاساسية اختفت وستختفي من لوائح الاتهام، وهي المادة التي تتعلق بإفساد المجتمع وتبخر الصورة الإنسانية وتمجيد شعرة التصويب في بندقية القناصة. هذه الحكومة متهمة بخلق أزمة إنسانية، ليس في أوساط الفلسطينيين بل في المجتمع الإسرائيلي.

هآرتس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى