الدول الصناعية: هل قطاع البناء ملاذٌ للتعويض عن تناقص فرص العمل؟
حميدي العبدالله
من المعروف أن فرص العمل في الدول الصناعية المتقدّمة، مثل الولايات المتحدة وأوروبا، آخذةٌ في التناقص، وهذا التناقص يقود إلى انتشار البطالة التي تلامس في بعض الدول الصناعية حدود 10%، ولعل هذا التناقص في إنتاج فرص العمل هو الذي يقف وراء الردة عن العولمة، وعودة الحمائية و«القومية الاقتصادية» التي كانت وراء فوز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية، والتي تفسّر أيضاً انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
هذا التناقص سببه ثلاثة عوامل:
– العامل الأول، الإشباع. ومصطلح الإشباع اقتصادياً، يعني أن التوسع في الإنتاج وصل إلى درجة لم يعد يتطور وينمو بمعدلات كبيرة تخلق فرص عمل جديدة تتناسب مع عدد الداخلين الجدد إلى سوق العمل.
هذه الظاهرة تجاوزتها الاقتصادات الصناعية المتطورة في مراحل سابقة عن طريق العولمة، وتحديداً فتح الأسواق الخارجية عن طريق الفتوحات الاستعمارية، وهيمنة الدول الصناعية على القرار السياسي في دول كثيرة في أنحاء القارات الخمس.
– العامل الثاني، انتقال ثقل الإنتاج من الدول الصناعية إلى دول أخرى مثل الصين والهند والبرازيل التي باتت حصتها من إجمالي الناتج العالمي تقترب من التساوي مع حصة الدول الصناعية من إجمالي الناتج العالمي، وأصبحت آلة الإنتاج في هذه الدول النامية منافس جديّ للاقتصادات في الدول الصناعية المتقدمة. في هذا السياق يأتي التأكيد الذي ورد في استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي أعلنت في مطلع هذا العام، بأن الصين كمنافس اقتصادي للولايات المتحدة تشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي. بكل تأكيد كل ما تناقصت حصة الدول الصناعية في الناتج الدولي، كلما تراجعت قدرة الاقتصادات في الدول الصناعية المتقدمة على إيجاد المزيد من فرص العمل.
– العامل الثالث، انتقال استثمارات وأعمال الشركات الكبرى في الدول الصناعية المتقدمة إلى الدول النامية بحثاً عن المدخلات الرخيصة، ولكن نقل استثمارات وأعمال الشركات الكبرى إلى الخارج يضعف إنتاج فرص العمل في الدول الصناعية، ويقود إلى تزايد أعداد العاطلين عن العمل.
في مواجهة هذه الظاهرة تلجأ بعض الاقتصادات الغربية، وتحديداً الاقتصاد الأميركي، إلى قطاع البناء، وهو القطاع الذي في طبيعته أقل قابلية للعولمة، للتعويض وإيجاد فرص عمل إضافية. في هذا السياق نشر أستاذ التمويل في جامعة «ستوني بروك» الأميركية «نوح سميث» في صحيفة «واشنطن بوست» بحثاً قدّر فيه عدد فرص العمل «ذوي الياقات الزرقاء»، أي العمال الكادحين، التي أنتجها قطاع البناء «بنحو (7) ملايين عامل».
وحول الأسباب التي دفعت للرهان على قطاع البناء، يقول الكاتب «مع التراجع السريع لفرص العمل في المصانع، يبقى قطاع البناء بمثابة عصب الحياة لما بقي من العمال الكادحين ذوي الياقات الزرقاء».
لكن مع ذلك لا يرى الباحث بأن الوضع على ما يرام في هذا القطاع. يقول سميث «لقد أشارت بحوث إلى أن الإنتاجية في مجال البناء شهدت تراجعاً كبيراً في معظم دول العالم، وكانت في الولايات المتحدة أكثر ضعفاً» ويضيف «وفقاً لمقاييس القيمة المضافة من طرف العامل الواحد، يمكن القول إن الإنتاجية في قطاع البناء تراجعت بنحو ثلث ما كانت عليه عام 1970». بديهي أن يحصل ذلك نظراً لحالة الإشباع، أي بناء شقق أكثر من الطلب الحقيقي. لكن الباحث يؤكد «إذا كانت هذه النتائج والأرقام دقيقة، فسوف يمثل ذلك كارثة حقيقية ولو انخفضت الإنتاجية إلى هذا الحد في الاقتصاد بشكل عام، فسوف تنخفض معايير مستوى المعيشة في الولايات المتحدة إلى مستوى تلك التي نراها في إسبانيا».
ما تقدّم يعني أن قطاع البناء على الرغم مما يساهم فيه لجهة التعويض عن تناقص فرص العمل، لكنه غير قادر على الحفاظ على مستويات المعيشة التي تحققت قبل التطورات التي كانت وراء تناقص إنتاج فرص العمل في الدول الصناعية.