لا يتوقف الإرهاب بتجفيف مصادر التمويل فقط… د. عصام نعمان
فقط بعدما أصبح الإرهاب خطراً مقيماً وفاعلاً في الغرب، وافقت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأطلسيون على تجفيف مصادر تمويله. لولا أمواس الإرهابيين التي وصلت إلى ذقون الأطلسيين لاستخدمت أميركا حق النقض الفيتو ضدّ قرار مجلس الأمن الدولي الذي صدر أخيراً والقاضي بتجفيف مصادر تمويل مجموعات إرهابية في سورية والعراق، مثل «داعش» و«النصرة»، وحظّر التجارة بالآثار السورية، وهدّد بعقوبات اقتصادية على من يشتري نفطاً من الإرهابيين، وأوصى بمراقبة أفضل لحركة الشاحنات والطائرات التي قد تنقل بضائع مسروقة ذهب أو منتجات الكترونية أو سجائر .
صحيح أن القرار يندرج تحت الفصل السابع من شرعة الأمم المتحدة الذي ينصّ على فرض عقوبات على الدول التي تمتنع عن التطبيق، إلاّ أنه جاء مشوباً بنواقص وثغرات تتيح للمخالفين التحايل في تطبيق أحكامه فضلاً عن تجنّب أية مساءلة أو عقوبة. فقد أوصى خبراء الأمم المتحدة بضبط ومصادرة الشاحنات والصهاريج المخالفة التي قد تمرّ من مناطق خاضعة لسيطرة «الجهاديين» إلى دول مجاورة، لكن مجلس الأمن، بضغط من تركيا التي تتأثر بهذه النقطة في شكل خاص، رفض الأخذ بتوصيتهم.
صحيح أيضاً أن تجفيف مصادر تمويل المجموعات الإرهابية مهم، لكن ما من آلية فعالة نصّ عليها قرار مجلس الأمن لهذه الجهة كما لجهة الرقابة على توريد الأسلحة والذخائر إلى الإرهابيين. فحدود تركيا مع كلٍ من سورية والعراق مفتوحة على امتداد مئات آلاف الكيلومترات وعبرها يجري تهريب مختلف أنواع الممنوعات التي نصّ عليها قرار مجلس الأمن أو لم ينصّ.
لعل النقص الرئيس في أحكام قرار المجلس أن بعضاً من أعضائه، ولا سيما الولايات المتحدة، يلتقي في سياسته مع أغراض «داعش» و«النصرة» ويتعاون معه ميدانياً ويمدّه تالياً بالمال والسلاح. الدليل؟ ثمة أدلة وقرائن متعددة في هذا المجال، أبرزها ثلاثة:
أولها، مسارعة مندوبة أميركا في الأمم المتحدة سامنتا باور إلى إعلان رفض بلادها «الشراكة» مع سورية في الحرب ضد التنظيمات الإرهابية بدعوى أن «أفضل وسيلة لتجنيد المزيد من المقاتلين في صفوف «داعش» هو نظام الأسد نفسه الذي مارس القمع ضد شعبه وزجّه في السجون».
إذا كانت ممارسة القمع «أفضل وسيلة لتجنيد المقاتلين»، فهل إن عشرات آلاف المقاتلين الإرهابيين القادمين من باكستان والسعودية وتركيا وإندونيسيا وأفغانستان، وكلها دول حليفة للولايات المتحدة، هم نتاج القمع الذي تمارسه حكوماتهم؟ وإذا كان الأمر كذلك، ماذا تعتزم الولايات المتحدة فعله لوقف القمع المؤدي إلى توليد الإرهابيين في تلك الدول المتحالفة معها؟
ثانيها، بات معروفاً للقاصي والداني أن «إسرائيل»، طفل أميركا المدلل وحليفتها العضوية، تقوم بدعم جبهة «النصرة» الموضوعة نظرياً على قائمة التنظيمات الإرهابية في الولايات المتحدة عسكرياً ولوجستياً ما مكّنها من طرد قوات «اندوف» الأممية من المنطقة المنزوعة السلاح على خط الفصل بين سورية والجولان المحتل. كما أعلنت «إسرائيل» رسمياً أنها عالجت في مستشفياتها أكثر من 1200 من مقاتلي «النصرة» وسائر التنظيمات الإرهابية الناشطة في الجولان. فهل كانت «إسرائيل» لتقوم بكل هذه الانتهاكات الموصوفة لولا موافقة الولايات المتحدة ؟ وإذا كانت فِعلَتُها تفتقر إلى موافقتها، فلماذا تتأخر الولايات المتحدة في مساءلتها ومحاسبتها؟ ألا يشكّل هذا التقصير دعماً غير مباشر للإرهاب والإرهابيين؟
ثالثها، كشفت مصادر معادية وأخرى غير معادية للولايات المتحدة في العراق كما في كردستان العراق أن الطائرات الحربية الأميركية ألقت متعمّدةً أسلحة وذخائر لمقاتلي «داعش» في غرب العراق وشرق سورية. وقد تأكدت هذه التقارير والشهادات بصورة غير مباشرة من خلال «توضيحات» أدلى بها بعض المسؤولين الأميركيين مفادها أن الأسلحة التي ألقتها الطائرات الأميركية وقعت في أيدي «داعش» «بطريق الخطأ»، فأقتضى التنويه! ولم ينكر البعض الآخر أن الأسلحة والذخائر التي أرسلتها أميركا وحلفاؤها إلى تنظيمات «المعارضة السورية المعتدلة» أمثال «الجيش السوري الحر» و«لواء عاصفة الشمال» وغيرهما قد وقعت هي الأخرى في أيدي «داعش» و«النصرة» عندما تمكّن مقاتلو هذان التنظيمان من السيطرة على معظم مواقع «الجيش الحر» الذي يكاد يتبدد. وإذا كان بعض المراقبين يعتقد أن لا دور لأميركا في وصول الأسلحة المرسلة عبر تركيا إلى «الأيدي الخطأ «، فإن بعضهم الآخر يعتقد أن وصولها كان متعمَداً بهذه الطريقة الملتوية للتغطية على الفعل الشنيع ليس إلاّ بدليل أن ضباط الاستخبارات الأميركية العاملين في تركيا وسورية والعراق يعلمون علم اليقين مدى الضعف والتفكك اللذين يعانيهما «الجيش الحر»، وأن الأسلحة المسلّمة له سيكون مصيرها الوصول حتماً إلى أيدي «داعش» والنصرة»!
إلى أين من هنا؟
آن الأوان لتعترف أميركا وسائر الدول المتضررة من الإرهاب والمجموعات الإرهابية أن سياساتها وأساليبها الملتوية في محاربة خصومها من الدول والأنظمة التي لا تماشيها أو تعاديها أو ترسم خرائط سياسية جديدة للإقليم لتنال من وحدتها وسيادتها قد فشلت فشلاً ذريعاً. فلا هي نجحت في سورية ولبنان والعراق واليمن، ولا هي عدّلت تلك السياسات والأساليب المتواطئة مع بعض التنظيمات الإرهابية أو المتعاونة مع بعضها الآخر ما أدى إلى تخريج أرهاطٍ من الإرهابيين المترعين بالحقد والتطرف في كراهية الغرب ثقافةً وسياسة ومسؤولين، وأتاحت لهم بعد عودتهم إلى أماكن إقامتهم في دول أوروبا وأميركا فرصاً وخبرات للنيل منها على جميع المستويات.
ليس المطلوب من دول الغرب «شراكة» مع سورية أو غيرها في الحرب ضد التنظيمات الإرهابية بل إعادة النظر جذرياً في سياساتٍ وأساليب تعتمدها، ولا سيما الولايات المتحدة وبعض حلفائها، قوامها تمويل وتسليح وتسليط مجموعات إرهابية على دول وأنظمة تناهضها في المنطقة.
المطلوب اعتبار الإرهاب والإرهابيين أعداء الإنسانية جمعاء بكل ثقافاتها ودولها ومجتمعاتها، والتعاون في مواجهتها، سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، في إطار الأمم المتحدة ومن خلال خطة متكاملة تُسهم فيها الأطراف المتضررة جميعاً، كلٌ بقدْر ما يطيق ويستطيع.
المطلوب اعتبار مواجهة الإرهاب أولوية أولى، إنسانية وسياسية وثقافية وأمنية، لعالمنا المعاصر.
(البناء)