لبنان المقاوِم يتكلّم لغة الأقوياء ليلى نقولا
المؤسِف أن بعض الأصوات اللبنانية ارتفعت مُطالبةً الدولة بالانصياع للضغوط الأميركية بالتخلّي عن جزء من حقوقها بذريعة الحفاظ على التعاطُف الدولي، وتمهيداً للمؤتمر الدولي للاستثمار في لبنان الذي من المُزمَع عقده في روما. إن وجهة النظر هذه والتي لطالما اعتمدت مقولة “قوّة لبنان في ضعفه”، إنما تسير عكس كل العِلم والمنطق والتجارب الدولية .
برز ملف النفط إلى واجهة الأحداث في لبنان، على أثر الزيارات التي قام بها كل من وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون، وقبله مساعده دايفد ساترفيلد، الذي قام بمفاوضات بالنيابة عن إسرائيل بتهديد لبنان لإعطاء الإسرائيليين حصّة من البلوك النفطي اللبناني رقم 9. وكان الموقف الرسمي اللبناني بالإضافة إلى الموقف الذي أعلنه الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله واضحاً لجهة عدم القبول بالمسّ بالسيادة اللبنانية وعدم السماح لإسرائيل بقضم الحقوق في المياه والنفط.
والمؤسِف أن بعض الأصوات اللبنانية ارتفعت مُطالبةً الدولة بالانصياع للضغوط الأميركية بالتخلّي عن جزء من حقوقها بذريعة الحفاظ على التعاطُف الدولي، وتمهيداً للمؤتمر الدولي للاستثمار في لبنان الذي من المُزمَع عقده في روما. إن وجهة النظر هذه والتي لطالما اعتمدت مقولة “قوّة لبنان في ضعفه”، إنما تسير عكس كل العِلم والمنطق والتجارب الدولية، ولنا على هذا الأمر ملاحظات عدّة، أهمها:
أولاً: تتّسم العلاقات الدولية دائماً بأنها علاقات قوّة، فالمفاوضات التي يجريها الأفرقاء الدوليون تسير على إيقاع دبلوماسية القوّة، فالقانون الدولي ليس سوى أداة لتبيان الحق وتحديد الحقوق والواجبات، بينما تقوم القوّة التي تمتلكها الدول بتحصيل هذا الحق والدفاع عنه، ولم يحصل أن دولة انخرطت في نزاع دولي واستطاعت تحصيل حقوقها من دون امتلاك قوّة كافية. فكيف إذا كان هذا النزاع مع دولة كإسرائيل؟.
ولعلّ التهديدات الإسرائيلية التي سبقت الزيارات الأميركية، ثم التهديد اللفظي الذي سمعه المسؤولون اللبنانيون من الأميركيين، ضمن معادلة “إما اقتسام النفط مع إسرائيل، أو لا نفط”، بالإضافة إلى ما كانت قد أكّدته مصادر لبنانيّة رسمية من أنّ ساترفيلد أقرّ بمفاوضاته حول بلوك 9 مع كبار المسؤولين، بأحقيّة لبنان في المنطقة المُتنازَع عليها لكنّه ظلّ مُصرّاً على إعطاء إسرائيل “شيئاً ما” منها، كلها تؤشّر إلى أن أيّ نقاش دبلوماسي قانوني في موضوع النفط اللبناني والنزاع حول البلوك 9 لا يعدو كونه ترفاً لا ينفع في المعركة الدائمة مع الإسرائيليين لتثبيت السيادة اللبنانية في البحر والبر، وخاصة أن الإسرائيليين لم يفهموا يوماً سوى لغة القوّة ولم يكترثوا للقانون الدولي في كل تاريخهم منذ عام 1948 ولغاية اليوم.
ثانياً: يقوم عِلم المفاوضات على مبدأ أساسي سِمته “الصبر والنفَس الطويل”، فيدخل المُفاوِض إلى حلبة المفاوضات بأعلى سقف لديه، ثم تحصل التنازلات في اللحظات الأخيرة من المفاوضات وليس في بدايتها. فكيف يمكن للبنان أن يدخل إلى مفاوضات وهو مُتنازِل أساساً عن حقوقه وسيادته منذ اللحظات الأولى؟ وأية مهمة تقع على المُفاوِض اللبناني وهو قادِم لتقديم التنازلات وليس لتحصيل الحقوق؟
ثالثاً والأهم، إن هذه الأصوات نفسها التي تطالب الدولة اللبنانية بالاستسلام وتسليم جزء من الأراضي اللبنانية لإسرائيل هرباً من الضغوط الدولية، هؤلاء أنفسهم لطالما طالبوا حزب الله بوضع قدراته بتصرّف الدولة اللبنانية وتسليم قرار الحرب والسلم لها. فكيف يحرمون الدولة من حقها باتخاذ قرار مُستندة إلى قوة تمتلكها، فها هو حزب الله وعلى لسان أمينه العام يُعلن بأنه في حال اتخذت الدولة اللبنانية “قراراً بأن محطات الغاز والنفط الفلانية في البحر الفلسطيني ممنوع أن تعمل أنا أعدكم خلال ساعات قليلة ستتوقّف عن العمل“.
ما قام به حزب الله في هذا المجال، هو تحويل قوّة المقاومة إلى أداة قوّة يتأبّطها المُفاوِض اللبناني ويتسلّح بها خلال المفاوضات، فيستطيع حينها أن يُفاوِض من موقع القوي القادِم لتثبيت حقّه وليس من موقع المهزوم القادِم لتوقيع صكّ الاستسلام.
لقد آن الأوان ليقتنع اللبنانيون بحقّهم بالاستفادة من مقوّمات القوّة لديهم، فالسعي نحو القوّة هو محور العلاقات الدولية وهدف الدول الأسمى، ولقد راكم اللبنانيون القوّة على مدى عقود من الصراع مع إسرائيل، فانتقلوا من معادلة المقاومة والتحرير، إلى الردع بعد حرب تموز، ثم التوازن والتكافؤ تدريجاً لتصل مقوّمات القوّة اللبنانية اليوم إلى القدرة على التهديد الاستباقي، فلماذا تهرولون إلى الاستسلام؟.