إغتيال التغيير والزمان في إنتخابات لبنان الدكتور نسيم الخوري
عندما ينتخب اللبنانيون المسلمون ممثّليهم في البرلمان من غير المسلمين ويختار اللبنانيون المسيحيون ممثّليهم في البرلمان من غير المسيحيين يكون لبنان قد عاد إلى لبنان الزاهي ويرضي الغالبية العظمى من اللبنانيين، ونكون قد قطعنا مسافة محترمة. تلك هي الخطوة الأولى الشاقّة الخيالية التي قد تخلص اللبنانيين من الإستغراق السياسي في إظهار صورة لبنان الطائفي الذي بات أبناؤه المغتربين يخجلون به ويسعون إلى تلميع صورته أو إستعادة صورته القديمة. ما الكارثة إن وصل نائب الى البرلمان بنسبة ضئيلة من المقترعين من الطوائف كلّها؟ ألا يقوده أمر أو قانون من هذا الطراز أو يلزمه بتغيير منطقه وسحب الهواجس والهوامات الطائفية من عقله ولسانه بمعنى خطبه وتصريحاته وسلوكه والإقلاع عن أن يكون نائباً محدوداً ليصير نائباً على مستوى وطنه. يستحسن التذكير هنا بتجربة مماثلة عندما قاطع معظم المسيحيين الإنتخابات البرلمانية في العام 1992 ترشيحاً وإقتراعاً : ألم يصل بعدها نواب الى البرلمان ب ٤٣ صوت فقط؟ وقبل ذلك، ألم يعين مجلس الوزراء اللبناني، نوابا في البرلمان في ال1991 بعد الإتّفاق على وثيقة الوفاق الوطني في الطائف في المملكة العربية السعودية واضعاً حدّاً للحروب الهائلة التي دمّرت هذا الوطن الصغير؟
تكمن المفارقة التي تزعج معظم اللبنانيين اليوم داخل وطنهم وخارجه هي أنّهم لم يلمسوا ولو خطوة إيجابية مفيدة في طريق إعادة بناء لبنان، إلى درجة إقرارهم بالإفتراق بين “ديانة” الآباء و”ديانة” الأبناء في فهم السياسة المعاصرة المتطورة وقدسية التمثيل. هذه خطب يومية تعجّ بها أحرام الجامعات وأروقتها ومدارسها وتكاد تستغرق معظم ما تبثه الشاشات ووسائل الإعلام. يتشبث السياسيون بعوالمهم ونوابهم الذين صاروا جزءاً أكثر من مألوفٍ في البرلمان الذي مدّد لنفسه مرتين وكأن التمثيل بات وظيفة إدارية، ناهيك عن الجمع بين الوزارة والنيابة في العديد من الأشخاص المحظيين أنفسهم، بينما اللبنانيون في المقابل يتلظّون في عالم مختلف، ويتطلّعون إلى الإنتخابات البرلمانية المقبلة ورؤوسهم مشدودة إلى الوراء أي إلى زمنٍ أهمّ وأغنى بكثير من حاضرٍ حافلٍ بالإنقسامات والخطب المذهبية والطائفية الحماسية والفساد المخيف. من يستعرض ولو أفقياً تاريخ التآخي الحقيقي والمستوى الحضاري في التمثيل البرلماني القديم ونوعية الخطاب السياسي غير الطائفي أعني الوطني والعربي في غابر الزمان الديمقراطي البرلماني في لبنان يفهم مستوى التراجع والإنهيارات الحالية ونوازع الطموح في العودة إلى هذا اللبنان القديم الذي كان البرلماني فيه ممثلاً عن الأمّة اللبنانية والعربية لا عن طائفته أو مذهبه أو قبيلته أو عائلته أو عن وريثه.
الخوف من التغيير ؟
إشارة أولى : يقول رئيس حزب كبير في لبنان في مقابلة تلفزيونية بأنّه لا يريد تغيير الوجوه في من سيمثل حزبه وطائفته في البرلمان المقبل. وأكثر من ذلك هو قال بأنّه ضد إشتراك المرأة في الإنتخابات البرلمانية لأنّ العمل البرلماني، كما قال، هو الركض من إدارة إلى أخرى خدمةً للمواطنين وهو ما لا تقوى المرأة عليه لذا فمن الأفضل أن تهتم بتربية الأولاد. هو لم يذكر معضلة التشريع قطّ، مع أن النظام الديمقراطي يقوم على التغيير والتطوير الدائمين، وأساس التغيير البرلماني هو أن الناخب يحاسب النائب الذي بدوره يحاسب الحكومة أو الوزير في الحكومة لتتآلف السلطات بالمناخ الديمقراطي.
إشارة ثانية: هناك شخصيات غلبتها الشيخوخة وشارفت العجز ولم يشهد الناس على أنشطتها التشريعية وما زالت تعتبر من الثوابت في تمثيل الناس برلمانياً وقوّتها ثابتة لا في إنجازاتها بل في الثروات الهائلة التي تدفعها للزعماء ورؤوساء الأحزاب لتأمين الإستمرارية في التمثيل. وقد نجد شخصيات فتية من الثوابت أيضاً من لوازم الحياة البرلمانية التي تبدو وكأنّها فقدت صورتها ومثالها لتتقمّص صورة الزعيم وتلبس صورته ولسانه ونبرته.
إشارة ثالثة: صحيح أنّ “عالم المثل ثابت لا يتغيرويبقى خارج الزمن وإلى الأبد” كما قال إفلاطون في رسم جمهوريته، لكن عالم الواقع والسياسة قائمة في الأمكنة والأذهان وخاضعة للمتغيرات اليومية وقوّة الزمان، إذ لا يمكن أن يبقى المألوف ماضياً يتجاوز الحاضر والمستقبل الذي” يشغل اللحظة الجوهرية في وجود الإنسان وتطوره” كما قال هايدجر في كتابه: “الوجود والزمان“.
إشارة رابعة: كانت علوم الرياضيات محدودة ومنضبطة يمكن حصرها بالجمع والطرح والقسمة والضرب وبقيت الأرقام طيلة عشرين قرنٍ مسألة تقيّد الأفكار والأجيال والحضارات وترخي بأثقال محدوديتها على العقل البشري حتّى إكتشاف الرياضيات الحديثة وتفجّر ال Bits . ما هو هذا البايت؟ هو ببساطة كليّة إخراج الصفر من عدميته وإعطائه روحاً وقيمة كبرى في علوم العصر. مع البايت خرجت الدنيا بقاطنيها من شيخوختها الى تجديد شبابها عبر بعث جاذبيات وسائل الإتصال والإعلام وإعادة القول بالعالم الذي لا تغرب الشمس عنه بالمعنى المعرفي والتواصلي وتبادل البورصات والثقافات، وسقوط الحدود بين الدول والشعوب والثقافات.
تضيق مسافة المواءمة بين التفكيرالمقيم في التغيير والرافض له جهراً وسرّاً، ولنعترف أنّ أجيالاً مسكونة بالتغيير تتراكم على الدنيا عبر وسائل التواصل، وقد لا يعنيها الكثير من الكلام في تحقيق أدبيات التعايش والإختلاط والتسامح والعيش المشترك وغيرها من المواصفات والمصطلحات المشابهة المفرغة من مضامينها. لا تعترف أجيال التغيير إلاّ بالتغيير الشامل عنواناً لإعادة بناء الأوطان وترميمها والمصالحة مع الزمان وعدم تجميده وجعله ثقيلاً، وهو ما لا نلمسه حاصلاً أو سيحصل في أذهان معظم زعماء الأحزاب والسياسيين التقليديين في لبنان. إنّ لبنان، إن لم يحصل ما يحول دون إجراء الإنتحابات البرلمانية، يستهلك آخر أو بقايا مرحلة إنتقالية بالية شديدة الصعوبة والتعقيد والهضم في الدعوة إلى إعادة بناء الديمقراطية عبر تغطيته مجدداً بالثياب المتجاوزة للديكتاتورية.
أستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه، لبنان