سألتني حفيدتي تاليا.. حيّان سليم حيدر
سألتني حفيدتي تاليا البالغة من العمر ثماني سنوات ونيف: هل كانت الكهرباء تذهب وتعود في أيّام طفولة أمّي؟
سؤال .. بادرت بالجواب عليه بشيء من الطراوة بالقول أن منذ صغر والدتها، كنا نقول “جاءت الدولة” أو “راحت الدولة” كلما كانت تغيب الكهرباء أو تشرق علينا. وزدت في مدى الطرافات بشيء من اللغة الفرنسية كون السائلة تلميذة مدرسة الليسيه مع زيادات من نوع أننا كنا نرحّب بعودة الكهرباء بالزغاريد والتصبيح والإمساء وأن لدى طول غيابها نقول لها “أهلًا وسهلًا، طوّلتي الغيبة” الى ما هنالك من ردود “ودودة” تحاول أن تعوّض عن تقصير أجيالنا في محاسبة المتسبّبين بحرماننا من النور.
سؤال بريء لكنه بديهي .. طرحته حفيدتي على طريقة متقصّية حقائق الحياة اللبنانية بجدّيّة القاضي الذي يحاول أن يكوّن عناصر ملف القضية، ممزوجًا بشيء من تقنية مراقب المنظمات الأممية الذي يتعقّب الجريمة، يسجّلها ثمّ لا يلبث أن يصطحب معه المجرم (والضحية إن عاشت) الى قاعة الهيئة العامة للأمم المتحدة، يُقعده على مقاعد وأمام طاولات المراقبين والعموم و”يجبره” ، عقابًا، على الإستماع، من على أعلى منبر في العالم، الى خطابات كبار المرتكبين العالميين على اختلاف جنسياتهم وتوجهاتهم ومراميهم المريبة وانتماءاتهم المصيبة، الدولية منها والوظيفية والقطاعية وفي جميع المجالات والإختصاصات، فيستمع الى ترداد إدانة عمله المشين والمستنكر ويخرج من القاعة مباشرة الى التظاهرة التي، في الخارج، تقام تحت عناوين حقوق الإنسان ومناهضة العنف وحريّة التعبير واحترام الرأي الآخر وإلغاء حكم الإعدام، مطالبة تلميحًا بإعطائه حقوقه كاملة وفيها حقّ التعدّي على حقوق الغير … بالشكل والمستوى الذي يريد … بما في ذلك حرمان من يتحكّم بهم من نور الكهرباء !
ثمّ فسّرت لتاليا كيف أننا تقدّمنا (كثيرًا) منذ القرن الماضي من إعتمادنا السابق على الشمعة والمصباح والقنديل والكاز و”اللوكس”، الى عبوة الغاز وأضواء النيون الموصولة بالبطارية، فالى جهاز ال UPS أو ATS أو ما شابه، الى المولّد الصغير العامل على البنزين أو المازوت القابع على شرفة المطبخ، الى الإشتراك بمولّد الحيّ (مع من بقي حيًّا فيه) مرورًا بمعنى “راقب الدسجونكتور” وطرفة ” إطفيء الفاب (Vape)” لتخفيف الحمل عن البطارية أو المولّد كما عمّت به اللغة الهزلية الخاصة التي تولّدت مع إنتشار المولّدات !..
وهل أشرح لتاليا لماذا، منذ الإجتياح الإسرائيلي، للبنان ولإرادات بعض اللبنانيين، في العام 1982، وكان عمر والدتها سنة واحدة، وبعد “نهوض” لبنان (راجع .. راجع يتعمّر!) منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، والتبجّح بنُسَبْ نمو إقتصادي تفوق الثمانية لا بل العشرة بالماية، وإقناع الشعب (العظيم) غير العبيط أن الإستدانة ضرورية ومعتمدة (وعندنا متعمّدة) من قبل أنجح حكومات العالم بل هي حيوية وتشكّل أساس إعادة الإقتصاد الى الدوران، وخاصة عندما نصرف مدخولها في الهدر والفساد وسرقة مستقبل الأجيال، لماذا، والدين زاد على الماية الأولى من المليار دولار أميركي يضاف إليه ماية أخرى جُبِيَتْ على مدى عقود من الزمن وأُنفقت على كلّ شيء ولا شيء معًا، لماذا لم يُنفَقْ منها مبلغ 3 مليارات فقط، المبلغ المقدّر، وهو مضخَّم أساسًا، لتأمين توليد الكهرباء وتوريد نورها الى ساكني لبنان (بكلّ معاني ساكن) على مدار الساعة؟ لا .. سأترك مهمّة شرح تفاصيل هذه الأرقام الفلكية لوالد تاليا المصرفي الرصين، علّه ينجح حيث لم يفلح أحد..
وهل أدخل حفيدتي في متاهات السجال الذي يحول دون قبول لبنان بعروض تجهيزه بمعامل الكهرباء تعمل على أيّ نوع من الطاقة المتاحة، من دول صديقة بنظر مكوّن سياسي في البلاد (هذه التسمية المُهينة التي تصف مجموعة من أهل البلد بالمكوّن وليس بالمواطنين) وهي في آن عدو بنظر مكوّنات أخرى تشارك المجموعة الأولى نعيم المجلس النيابي ورغد الحكومة والوظائف ونعمة المغانم (والغنم، بكل أشكال التحريك) وتحول دون إنجاز المشروع؟ أو أن هناك عروض من دول لا تثير حساسية أيّ طرف إلّا حساسية المخرّبين المنتفعين من إنقطاع التيار الكهربائي !
وكيف لي أن أشرح لها عن قائمة المنتفعين التي وُلدت من حاجة اللبناني للتيار منذ أكثر من عقود ثلاثة ولم تنته بعد وبمن أبدأ ؟ أبفائض الموظفين “العاملين” في مؤسّسة كهرباء لبنان أو بالشركات التي تدير شؤون هذه المؤسّسات أو بشركات الخدمات والتوريد والصيانة وغيرها، أو بشرح أن هناك ما زالت، وبعد مرور 25 عامًا من العمل فيها، خطوط توتر عالي لم تنجز في بعض المناطق نظرًا للإعتراضات المحقّة منها وتلك المختلقة .. والمناكفات السياسية ؟ أو أن محطات التوليد والتحويل وتجهيزات المناطق والأحياء تتعرض دوريًّا للتعديات والتخريب بغية سرقة موادها وتعطيل عملها تنفيعًا لمورّدي الطاقة خارج القانون ؟
والأصعب أن أشرح لتاليا عن المياومين وأنا حتى الآن لم أفهم بعد لماذا يوقّع المرء عقدًأ ينصّ على أنه مياوم ويصبح بعدها في عداد الآلاف منهم ومن ثمّ ينزل الى الشارع ويغلق أبواب المؤسّسة التي تعاقد معها بذريعة أنه لم يتم تثبيته فيها ؟ فأي جزء من كلمة “مُياوم” لم يفهم (والتي تعني أنه يقبض لقاء تعبه كلّ يوم يعمل فيه حصرًا وليس أكثر) ؟ ناهيك عن المتطوّع، في جهاز آخر، يطالب بتثبيته، تثبيته في ماذا ؟ في التطوّع ؟ .. ولكن لهذا حديث آخر.
وهلا تساعدوني على توضيح تنامي وانتشار “خدمة” مولّدات الكهرباء في كلّ المناطق والأحياء وقد أصبحت دويلات بحدّ ذاتها تهدّد هناء العيش. لا لن أذكر لها جرائم القتل التي أودت بحياة متنافسين من أصحاب المولّدات على الأحياء! وسأكتفي بشرح أمر “خدمة” تلويث البيئة وتخريب الصحّة والتبجّح بخلق فرص عمل (من لا شيء) الى ما لا نهاية ويصبح تأمين كهرباء للمواطنين 24/24 من قبل الدولة قطعًا لأرزاق الآلاف من العائلات، تمامًا كما يذهب إليه أصحاب “قطاعات” أخرى مخالفة للقانون، إنما تفاصيلها ليست من إختصاص سؤال حفيدتي. وأشرح وأشرح .. وأشرح لها .. عن حالات البلاد !.
وهل أحرج والدتها، الجامعية في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالطلب منها أن تشرح لتاليا معنى سياسة؟ دولة؟ سياسيّين؟ رجال دولة؟ وظيفتهم؟ مهامهم؟ ممارساتهم؟ نتائجها على الشعب؟ من الشعب؟ أو أقتبس من شعر والد جدّها بقوله: ” فقد جهل السياسة من يراها مراوغة وأسلوبًا كذابا ” (1)
كيف لي أن أشرح لتاليا سبب التأخير الحاصل، منذ ما يقارب العقد من الزمن، في تلزيم إنشاء معامل توليد الكهرباء وقرارها متّخذ ومراسيمها قابعة في الجوارير من دون تنفيذ؟ أو أسباب المناكفات المستفيضة على توريد بواخر الكهرباء، ولماذا بواخر الكهرباء في الأساس؟ وكيف أن الجارة سوريا، المضرّجة بالحروب فيها وعليها منذ سبع سنين، ما زالت تزوّدنا بالتيار الكهربائي ثمّ أنّها تعرض علينا الآن المزيد منه؟
وما هو معنى صفقة؟ هل تشبه الصفعة ؟ (ويصلح هذا التعبير لوصف صفعة القرن!) وما معنى مناقصات في حين أنها مزايدات (في السياسة وفي دفاتر الشروط الإدارية معًا) ولماذا يشكو أهالي المناطق من سكّان المدينة ويحسدونهم على نعمة العيش في ذلّ تقنين مُحدّد بساعات ثلاث يوميًّا؟ وهل من المنطق أن يحسد الناس أقرانهم على التقنين في خدمة ما، أيّ خدمة عامة؟
كلّ هذا ذهب بي الى حافة فتح ملف النفط والغاز الغارقين في بحرنا الهائج لأشرح لحفيدتي كيف أن لبنان باشر بصرف الأموال العامة ديونًا على كلّ ما يمتّ بصلة الى هذا الملف، وأيضًا ما لا يتعلق به، منذ سنين طويلة رواتبًا وأتعابًا وتعويضات ودراسات وتنفيعات .. وأنه لم يحصل بعد على نقطة من النفط أو “نسمة” من الغاز، وهما المعوّل عليهما لتأمين الطاقة الكهربائية والعودة بالبلاد الى إزدهار طال وعده و، خطأً، سداد الدين العام ، ثمّ رأيت أن الشرح سيطول بالتأكيد وأنه سيمسي أكثر حراجة لغياب مبرّرات الموضوع، لذا، طويت الملف كي لا أستعين بوالدتها لتشرح لتاليا ولي أيضًا من زاوية إختصاص العلاقات الدولية كيف أننا نخسر، يومًا بعد يوم، بالإعتداء أو بالقضم، حقوقنا الجويّة والبرية والبحرية لصالح العدو. وهنا …
_ _ _ _ _ _
عذرًا .. لقد انقطع حبل الأفكار (مع إنقطاع التيار وغيره من الأمور) ممّا حتّم عليّ الدخول الى فسحة تأمّل قسري إمتدّت من 4 الشهر حتى 5 االشهر اللاحق “نأَيْت بنفسي” عن موضوع الكهرباء لمدّة شهر، وقد وقف الزمن خلاله بالنسبة لإحتياجات المواطنين ومطالبهم، لطغيان قضية بحجم بلد على كلّ ما سواها. ويجدرهنا تسجيل تفوّق لبنان على سواه من حيث أن القضية طغت على المشكلة أو المشاكل، وما أكثرها، فأَلهَتْ الناس، كلّ الناس الذين نسوا المشكلة، الأمر الذي هو عكس المنطق القائل أن المشكلة عادةً ما تطغى على القضية. وبعد معالجة “القضية” قيل أن أمور البلاد قد عادت الى ما كانت عليه قبل تاريخ 4 الشهر. وهنا يسجّل أيضًا للبنان براءة إختراع آلة تتجوّل عبر الزمن قدومًا ورجوعًا الأمر الذي عجز عنه كبار الحالمين من أهل العلوم.
وبالعودة الى حواري-المتعة مع الحفيدة، كنت في صدد الشرح لتاليا أن شعار ليبنانون (on) وليبانأوف (off) ليست لازمة لأغنية “أبو الزُلُفْ” بل برنامج (رحمه الله) لإعادة التيار الكهربائي الى اللبنانيّين بالكامل.
وقلت لنفسي: إذا كان السؤال البريء الأوّلي لحفيدتي قد جاش بأفكاري السلبية الى هذا المدى وجال في ثنايا ظلماتها (حرفيًّا) وأدخلني عالم فلسفة السياسة، فتخيّلوا أنا شارح معنى كيّ الوعي عند الطفل؟ وما هي “ثقافة الإستسلام”؟ وكيف يصبح اللبناني ضحيّةً ثمّ جلّادًا ثمّ مواطنًا مسؤولًا؟ ولماذا ينتصر عندنا فكر الحزب وينهزم حزب الفكر؟
و بعد الإطالة، أُغلق بعجالة هذه المقالة-الجواب قبل أن تراود باقي أحفادي مروحة الأسئلة التي لا بدّ أن تتطرّق الى موضوعات “تافهة” مثال النفايات، الإتصالات، السير ومواقف السيارات، المخالفات المقوننة الإنماء المتوازن، اللامركزية الإدارية الموسّعة منتهيًا بمبدأ إحترام الدستور والقانون..
ويبقى سؤال لم يطرح بعد ولكنه يبقى قاب الطرح أو أدنى: ومتى سيكون لنا كهرباء على غرار باقي العالم؟ مع هذا سألعب دور الأصمّ الأبكم تلافيًا للبكاء أمام الطفلة على حالنا كي لا أقول أن ذلك اليوم لن يأتي على أيّامي وأنا لا أريد زرع الإحباط في نفوس جيلنا الواعد. أما الجواب عليه فهو عندما يتغلب المتضرّرون من إنقطاع الكهرباء على المنتفعين من غيابها. ربّما أقول لحفيدتي هذه الحال هي بسبب أنه ليس هناك من “إجماع وطني” على الموضوع.
ليتنا نعود الى أسئلتنا البريئة حين كانت الأمور تتمحور حول الذهاب الى المدرسة وساعة الخلود الى النوم والإذن باللعب مع الرفاق والرحلات التثقيفية مع الأهل أو المدرسة بعيدّا من شاشات الواقع والإفتراض !
في الخلاصة، رُبَّ أروع لحظات الحياة التفاعل مع الأحفاد، فقمّة السعادة حوار تباشره حفيدتي متقصّية شؤون الحياة وأشكر الله على هذه النعمة .. أمّا التعاسة كلّ التعاسة فتكمن في أن ينغمد سؤالها هذا عميقًا في جرح معاناة اللبنانيّين منذ عقود فأقرأ ردّي عليها هنا وألعن شياطيننا الكثر على نقمتهم هذه.
بالإذن منك يا تاليا، لقد عنَّ لي أن أكتب رواية من نسيج الحقيقة والخيال .. للتنفيس .. وقبل أن يجعلني جنون ترامب في حالة “تريّث” من نشر هذه الصرخة، تعالي يا تاليا ..
نأخذ “سلفي” ونضع الكهرباء “خلفي” .. بيروت، قي 7 كانون الأول 2017م.
(1): من قصيدة ” العدالة ” لسليم حيدر- 1946، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ش.م.ل.