مرحلة جديدة مغايرة في الصراع تستوجب رداً مباشراً باستراتيجية متكاملة وفاعلة: د. عصام نعمان
يتبارى اليوم كتّاب وإعلاميون ودعاة وسياسيون في توصيف فعلة ترامب النكراء. يصفونها بأنها «صفقة القرن» أو «جريمة القرن» أو «جريمة العصر». ربما تليق بها هذه الأوصاف جميعاً، لكن التوصيف الأدق أنها «صفعة العصر» لكلّ العرب والمسلمين المراهنين والمخدوعين بجدوى التفاوض مع «إسرائيل» برعاية أميركا أو بوساطتها. لماذا؟
لأنّ واقعات ومعطيات وموازين قوى مغايرة تكوّنت وتطوّرت وفعلت فعلها مذّ صالحت حكومتا مصر والأردن دولة «إسرائيل» التي تنكّرت حكوماتها المتعاقبة لاتفاق أوسلو المشؤوم 1993 المعقود مع منظمة التحرير الفلسطينية، واستباحت بالاستيطان ربوع الضفة الغربية وإحياء القدس الشرقية، وشرّدت المزيد من سكانها العرب، وقمعت واعتقلت وصفّت الآلاف من المقاومين، وعطّلت بشتى الأعذار والتدابير مفاوضات ماراثونية عبثية تطاولت بوساطة أميركية مريبة ومنحازة، وحاصرت قطاع غزة وحاولت سحقه وإخراجه من معادلة الصراع بثلاثة حروب مدمّرة. كلّ ذلك جرى بغية إضعاف الجسم الفلسطيني الى درجة تضطر معها قياداته الى الرضوخ والتسليم بترتيبات مبرمجة لتصفية القضية برمّتها.
ترامب أنهى بقراره الأخير، من حيث يدري أو لا يدري، مرحلةً كارثية في تاريخ الصراع العربي الصهيوأميركي، فهل يدشّن أحرار العرب والفلسطينيين وملتزمو نهج المقاومة في صفوفهم مرحلة جديدة مغايرة، يُمسكون من بدايتها بزمام المبادرة، ويُطلقون مواجهةً طويلة النَفَس، وطنية وسياسية واجتماعية وثقافية، بأساليب وأسلحة عصرية متطوّرة على جميع المستويات، ويصمدون ويناضلون ويثابرون حتى بلوغ الأهداف المرتجاة؟
لعلّ أوّل ما يقتضي فعله هو الاقتناع بلا جدوى، وبالتالي بضرورة الإنهاء الفوري للتنسيق الأمني مع «إسرائيل» والامتناع الكلّي عن التواصل معها أو مفاوضتها، بوساطة أميركا أو من دونها، طالما انّ موازين القوى الإقليمية والدولية السائدة على حالها. أما في حال تراجعت أميركا أو جمّدت، في الأقلّ، قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمةً لـِ «إسرائيل» ونقل سفارتها إليها، فيصبح بإمكان المراجع الرسمية الفلسطينية عندئذٍ معاودة التواصل مع «إسرائيل» وفق شروط صارمة للقبول بمفاوضتها ليس أقلها إقرارها والتزامها علناً ورسمياً بموجب قرار في مجلس الأمن الدولي بأنّ القدس عاصمة لدولة فلسطين، وبوقف الاستيطان كلياً تحت رقابة أممية طيلة فترة استئناف المفاوضات، وتأكيد وتوثيق الالتزام مجدّداً بقرارات الأمم المتحدة جميعاً بشأن حقوق الفلسطينيين وفي مقدّمها حق العودة.
في موازاة الإصرار على هذا الموقف الشعبي والرسمي الصارم والموثق بالضمانات السالفة الذكر، يقتضي النهوض بلا إبطاء بمهمتين استراتيجيتين: الأولى للمدى القريب تتولاها القوى الوطنية الحيّة، والأخرى للمدى الأبعد تقع على عاتق الحكومات والهيئات الرسمية والشعبية والقادة الوطنيين الواعين بالتحدّيات والأخطار المحدقة بالأمة جمعاء والجادّين في التزام مواجهتها على الصّعُد السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية كلّها.
المهمة الأولى: قيام القوى الوطنية الحيّة بثلاث مبادرات وتحركات أساسية:
أ ـ تأجيج الانتفاضات الشعبية بالاحتجاجات والتظاهرات والاعتصامات والعصيان المدني، إذا اقتضى الأمر، في إطار أوسع حملة شعبية ضدّ أميركا ومصالحها في عالم العرب والمسلمين.
ب ـ المباشرة بلا إبطاء في إعادة بناء وتثوير منظمة التحرير الفلسطينية بالتزامن مع تطوير حركات المقاومة المدنية والميدانية وتوحيدها في جبهة عريضة فاعلة على مستوى الوطن العربي، بدءاً ببلاد الشام وبلاد الرافدين وصولاً الى سائر الأقطار والأمصار، وتزويدها برنامجاً كفاحياً متعدّد المراحل والمهام.
ج ـ اعتبار أيّ خطوة تُتخذ للتطبيع مع «إسرائيل» قبل تسليمها بقيام دولة فلسطين المستقلة وتثبيت حق العودة ومباشرة تنفيذه خيانةً عظمى بحق فلسطين، بما هي القضية المركزية للعرب والمسلمين.
المهمة الثانية: الضغط على الدول والحكومات والسلطات والهيئات الرسمية والقادة السياسيين في بلاد العرب والمسلمين، لحملهم على القيام بثلاث مبادرات أساسية:
أ ـ قطع العلاقات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية مع «إسرائيل» والوكالات والمؤسسات المتعاملة معها، ولا سيما المصالح الأميركية.
ب ـ عقد اجتماع قمة لجامعة الدول العربية وآخر لمنظمة التعاون الإسلامي، يُعلَن فيهما قرار لا رجوع فيه باعتبار القدس عاصمة أبدية لدولة فلسطين.
ج ـ إقرار ميزانية سنوية لمنظمة التحرير الفلسطينية في إطار كلّ من جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وذلك بصيغة مساهمات مالية سنوية من الدول الأعضاء في كلٍّ منهما.
إلى ذلك كله، فإنّ القادة والمناضلين الوطنيين الواعين وأهل الرأي الملتزمين والجادّين في بلاد العرب مدعوّون إلى اجتراح استراتيجية لبناء دول وطنية مدنية ديمقراطية في أقطارهم تكون أساساً لعمل دؤوب ومتواصل في إطار خطة علمية متعدّدة الجوانب لتحقيق تكاملها تدريجياً في اتحادٍ كونفدرالي أو دولة فدرالية اتحادية في العمق الجغرافي والاستراتيجي المحيط بالكيان الصهيوني، أيّ بدءاً ببلاد الشام وبلاد الرافدين وصولاً إلى تكاملها مع بلاد وادي النيل.
إنّ التحديات والمخاطر الكبيرة تتطلب عقولاً وإرادات وتنظيمات ومشروعات نهضوية كبيرة، وقد آن الأوان.
(البناء)