تقارير ووثائق

تأمّلات في المسألة الدّيمقراطيّة والانتخابيّة . من الاعتبارات النظريةعامّة إلى المثال التونسي نموذجا محمد صالح التّوميّ

 

سئل ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا في الأربعينيات من القرن العشرين عن أفضل الأنظمة السّياسيّة فأجاب في تخريجة ذكيّة : ” إنّ الدّيمقراطيّة هي أقلّ الأنظمة السّياسية سوءاويعرف كثيرون هنا أن فكرة الدّيمقراطيّة جاءت من اليونان القديمة وهي كمصطلح تشكّل دمجا في اللّغة الإغريّقيّة بين كلمتي “ديموس “أي الشّعب و “كراتوس ” أيّ السّلطة ، ما يجعل “ديموس كراتوس “أيّ الدّيمقراطيّة، تعني سلطة الشّعب .

ولكن”سلطة الشّعب” كفكرة تبقى كثيرة التّجريد لأنها تستوجب البحث عن الآليّات الكفيلة بإعطائها بعدا تطبيقيّا وعمليّا، فهنا تتداخل المصالح وتتصارع الرّؤى حسب المواقع المختلفة التي يحتلّها الفاعلون الاجتماعيّون في ظلّ تطوّر أنماط الإنتاج واختلاف المنظومات الثّقافية للشعوب .

إنّ أوّل ما يتبادر إلى الذّهن على المستوى النّظري البحت عند الحديث عن سلطة الشّعب هو أنّه من الواجب إتاحة الفرصة للنّاس كي يجتمعوا في الأماكن المعدّة لذلك لاتّخاذ القرارات المصيريّة التي تهم ّحياتهم بصورة مباشرة، ولكن هذه الفكرة على عظمتها لم تجد دائما حيّزا متاحا يمكّنها من إعطاء أفضل نتائجها .

فلا اليونان القديمة رغم صغر مساحة أثينا (وهو عامل كان يمكن أن يكون مساعدًا ) أمكنها أن تكون الحاضنة الأمثل لهذه الفكرة، ولا سويسرا الحديثة تمكّنت من ذلك أيضا : ففي اليونان القديمة كان من يسمّون أنفسهم       “أحرارا” هم وحدهم من يشاركون في الشّأن العام دون” العبيد “،وكان الرّجال كذلك هم وحدهم من يساهمون في اتّخاذ القرارات دون النّساء ، وهذه نقائص لا تستحقّ اليوم – ورغم الهجمة الشرسة لكل مظاهر التّقهقر – إلى أيّ زيادة في التّعليق .

أمّا في سويسرا الحديثة التي عاش فيها – بمدينة جنيف تحديدا -المفكّر جان جاك روسو صاحب النّظريات المعروفة حول الدّيمقراطيّة المباشرة فإن تحوّلها إلى أكبر خزانة للمال العالميّ بواسطة مصارفها وأسرارها، يفتح الباب للتساؤل المشروع حول ما إذا كان المواطن السّويسري البسيط هو صاحب الأمر في اتخاذ القرار الذي يهمّ حياته أم إنّ خزائن المال لا تترك له إلاّ مجالا صغيرا لذلك إذ يمكنها التدخّل دائما و الانحراف بإرادته في الاتجاه الذي تريد ؟

وإذ تحدّثنا في هذا السّياق عن اليونان وعن سويسرا بما يعني أنّنا لم نخرج جغرافيّا من دائرة الشّعوب الأوروبّيّة رغم اختلاف الزّمان بين التّجربتين،فإنّه يبقى من المشروع أن نحاول الإطّلاع على تطوّر هذه الفكرة من خلال تجارب الشّعوب الأخرى،وسنحاول ذلك – مثلا- من خلال تجربة المجموعة البشريّة العربيّة المستقرّة كما هو معروف بآسيا وبإفريقيا .

إنّ هذه المجموعة العربيّة قد أنتجت عبر تاريخها تجارب حضاريّة كثيرة مثل الحميريّة والبابليّة والأشوريّة والأكدية والتّدمرية والفينيقيّة والعماليقية والفرعونيّة وعرفت على الدّوام فترات ازدهار ثمّ فترات انتكاس ونكوص حضاريّ ولعلّ أشهر هذه الفترات النّكوصية هي تلك التي سبقت انبثاق الحضارة العربيّة الإسلاميّة والتي سمّيت اصطلاحًا بالجاهليّة .

وقد تلمّست هذه المجموعة البشريّة كغيرها من مجموعات الأرض طريقها نحو فكرة ” الدّيمقراطية “….. فكان لقرطاج في الجناح المغربي للمنطقة العربيّة دستورها،ولكنّ الحضارة الفينيقية صاحبة هذا الدّستور الأوّل المعروف تاريخيّا، ازدهرت زمن الأنظمة العبوديّة فسادها ما تفرضه تلك الأنظمة من تمييز ومن ضرب لقاعدة المساواة بين البشر، حتّى إذا ما رجعنا إلى الجناح المشرقيّ للمنطقة العربيّة ، وتوقّفنا عند الحضارة الحميريّة هذه المرة وأخذنا مثلا بالصّورة التي خلّدها النّصّ القرآني المقدّس عن بلقيس ملكة سبأ  ب”اليمن السّعيد ” وهي تطلب من قومها أن يفتوها في أمرها ، فإنّه لا تفوتنا الملاحظة أنّ بلقيس كانت تطلب المشورة من الملإ أي من الأعيان وليس من عموم الشّعب ؛

فهذا ما انعكس أيضا على الشّورى كما وقعت بسقيفة بني ساعدة عند انبثاق الحضارة العربيّة الإسلاميّة .

إنّ الحضارة العربية الإسلامية بوصفها وريثة للحضارات العربية السّابقة ومتمّمة لها( وما بعثت إلاّ لأتمّم مكارم الأخلاق / حديث نبويّ ) ولدت بصورة مباشرة من أرحام الانحدار الحضاريّ(الجاهليّة) بل وكردّة فعل عليه، فليس غريبا أن تولد معها تجربة الشّورى بالسّقيفة مشوبة بنقائص التّجارب السّابقة وبمستوى ما وصل إليه العرب في ذلك المكان(واد غير ذي زرع ) وفي ذلك الزّمان(القرن السابع ميلادي) .

إنّ من اختاروا أبا بكر الصّدّيق لمنصب الخلافة لم يمثّلوا جميع من كان سيحكمهم، بل كانوا فقط ثلّة من الأعيان المجتمعين بالسّقيفة على إثر الفجيعة في وفاة النبيّ الكريم ، وقد خاضوا تجربة مهمّة و كان بالإمكان تطويرها لاحقا، ولكنّ ذلك لم يقع ، لأنّ نوازع الاستبداد والإنفراد بالرّأي كانت هي الأقوى، وهو ما تجسّم في مظالم الدّولتين الأمويّة والعبّاسيّة ، وما كان أكثر تلك المظالم ؟

وهكذا يمكن القول إنّ فكرة الدّيمقراطيّة كحلم نظريّ لم تعرف أيّ تجسيم جدّي لها في العصور القديمة رغم تفاوت التّجارب في هذا المجال بين الشّعوب وذلك لأنّ الأنظمة العبوديّة والإقطاعيّة التي كانت سائدة في تسيير الدّواليب الاقتصادية والاجتماعية والمبنيّة على الزّراعة بالأساس ما كانت تسمح بذلك أصلا … ألم يقل أرسطو في هذا السّياق إنّ بروز الآلات المعدنيّة هو وحده القادر على تحرير العبيد؟

وبهذه الصّورة فإنّه عند تطوّر الأنشطة التّجاريّة والحرفيّة والمصرفيّة ثمّ الصّناعيّة (ومعها الآلات المعدنية )، مع ما يتطلّبه ذلك من ضرورة توفير مجال أوسع من الحرّيّة لهذه الأنشطة ما انعكس في مطلبي”حرّيّة التّجارة” و”حرّية الصّناعة ” وفي شعار “دعه يعمل ، دعه يمرّ”… سعى الفكر هو الآخر كنشاط بشريّ إلى توسيع آفاقه مناديا بحرّيّة التّعبير والتّفكير وبحرّية تكوين الجمعيّات والأحزاب ومحاولا استخلاص العبر من تجارب الاستبداد المريرة ، ما جعل الدّيمقراطيّة تطرح نفسها من جديد كحلم قابل للتّجسيد بل كمشروع معنيّ هذه المرة بتحرير العبيد والنّساء ولو في ظلّ هيمنة رأس المال الذي ساهم هكذا في تحرير هاتين الفئتين ولكن فقط بغاية استغلالهما كيد عاملة يريد منها أن تكون قانعة بما أحرزت من الكسب؛

ويبقى الأهمّ بعد هذا هو أن هذا التّنظيم البورجوازيّ للحياة الاجتماعية أتاح ظروفا جديدة للصّراع بإمكانها أن تفتح آمالا أكثر تقدّما لفكرة الديمقراطية، ولكنّنا من مونتسكيو وفولتير وديدور و جان جاك روسو إلى برودون وكارل ماركس وأنقلز ولينين عرفنا إلى حدّ الآن تنويعات فكرّية عديدة ومتناقضة لتجسيم هذه الفكرة دون أن نعثر على صورتها الأمثل ، إذ هناك من نادى بالدّيمقراطيّة النّيابية كما هناك من نادى بالدّيمقراطية الشّعبية والمباشرة ؛

ففي حين رأى المفكّرون اللّبيراليون أنّ النّظام النّيابيّ هو أحسن الأنظمة الدّيمقراطية وعرفت أفكارهم طريقها إلى التّطبيق في فرنسا وأنقلترة وأمريكا ، رأى المنادون بالفكر الاشتراكيّ الذين عرفت أفكارهم مجالها للتّطبيق بصورة عابرة في “كومونة باريس” سنة 1871،(71 يوما فقط) ، ثمّ بصورة أكثر دواما بالإتّحاد السّوفييتي (7 عقود ونيف) ثم ّبالصّين الشّعبية (…) ،أنّ النّظام الانتخابي النّيابي لا يسمح للنّاس في الحقيقة سوى باختيار من سيضطهدهم من مدّة نيابية إلى أخرى في ظلّ النّظام الرّأسمالي المبنيّ على الحيف وعلى الظّلم، وتبعا لذلك فإنّه لابدّ من تقويض هذا النّظام من أساسه وصياغة نظام جديد يسمح للشّعب بتسيير شؤونه بنفسه على أن يكون من تفوّض إليهم إدارة الأمور مجرّد أعوان تنفيذيّين خاضعين للرّقابة المستمرّة للشّعب .

لكنّه إذ سمح النظام الرّأسماليّ لحفنة من الأثرياء الجشعين والفاسدين في أغلب الأحيان بالسّيطرة على مقادير النّاس وباستغلالهم حتى النّخاع ، فإن من وقع تفويض الأمر إليهم في التّجارب المغايرة انحرفوا عن المناهج الاشتراكيّة كما هي محدّدة نظريّا وتحوّلوا بدورهم – وإن كان ذلك شيئا فشيئا – إلى بيروقراطيّين مستغلّين ومستبدّين .

وهكذا فإنّ سقوط حائط برلين ومعه أغلب الأنظمة البيروقراطية بداية من تسعينيات القرن العشرين قد أرجع- وخاصّة مع انتصار العولمة الرّأسماليّة – روّاد الأفكار التي تحاول الرّبط المشروع بين العدالة الاجتماعيّة وبين الحريّة السّياسيّة إلى مربّعات البداية تقريبا بل إلى مربّعات الحلم من جديد …. ونحن لا نشكّ لحظة واحدة هنا في أنّ الفكر البشريّ الخلاّق سيتوصّل ذات يوم -مستغلّا الثّورة التّقنيّة المتنامية – إلى صياغة الشّروط التي ستسمح بتجسيم هذا الحلم في أبهى صوره الممكنة، لكنّه في الانتظار قد انفتح الباب أمام الشّركات العملاقة العابرة للقارّات والمسيّرة الفعليّة للدّول وللحكومات كي تحاول تسويق تصوّراتها عن الدّيمقراطيّة – بما فيها واقعيّا من تجويع وتفقير واستعباد للطبقات الكادحة و المحرومة ومن نهب للأمم والشّعوب المظطهدة ومن حروب ظالمة – وتقديمها على أنّها التصوّرات الوحيدة الصّالحة للاجتماع البشريّ .

وبعيدا عن هذه الدّيماغوجيا الدّعائيّة المدعومة بما ينبغي من برامج الوعي الزّائف للفضائيّات التّلفزية وبما ينبغي من المال المشبوه المضخوخ إفسادا في أغلب شرايين ما يسمّى بالمجتمع المدني في كلّ مكان من العالم ، فإنّه من خلال أيّة نظرة موضوعيّة لتطوّر النّظام النيابي ّ يمكننا أن نقف على أنّه عرف منذ انبثاقه إشكاليّات عديدة ليس أقلّها أن نابليون بونابرت قد استغلّ هذا النّظام لينصّب نفسه امبراطورا على فرنسا، ما يفهم منه بسهولة أن النّظام برمّته يحتوي على ثغرات تساعد على مواصلة استعباد الناس وإخضاعهم لسطوة أصحاب النّفوذ أو الراغبين في ذلك.

فلا يجب أن ننسى هنا أنّ النّظام السّياسي الذي أنتجته الثّورات البورجوازية ومهما تشدّق منذ بداياته ب: حقوق الإنسان والمواطن، كان يفرض على الناس عند انطلاقه دفع معلوم ماليّ انتخابيّ : (   ( cens électoralلا يمكنهم بدونه أن يتحوّلوا إلى ناخبين ، ما يعني أنّ الانتخابات لم تكن متاحة إلا لمن يملكون المال الكافي لخوض غمارها، ولم يقع إقرار حقّ التّصويت الحرّ والمباشر لجميع المواطنين على أساس صوت واحد لشخص واحد إلاّ بعد ثورات جديدة وتضحيات عظيمة بذلها أنصار المساواة والعدالة ؛

ورغم هذه التّضحيات السخيّة ونتائجها الباهرة نسبيّا فإنّ مساوئ النّظام النّيابي ّما تزال ماثلة أمام أعيننا إذ يتّضح دائما قصوره عن تصعيد أفضل من يعبّرون عن إرادة الشّعب، وذلك لأنّ أصحاب المال الطّائل والخطباء الدّيماغوجيين بقي بإمكانهم دائما التّأثير في أصوات النّاخبين وتوجيه العمليّة السياسيّة من خلال ذلك في الوجهة التي يريدونها.

ويحضرنا هنا اسمان، أوّلهما: هو سيليفيو برلسكوني ،وثانيهما : هو أدولف هتلر .

فسيلفيو برلسكوني هو سياسي ّإيطاليّ متّهم بالانتماء إلى “المافيا” الإيطالية ومن المعروف أنّه كسب ثروته الطّائلة من خلال الفساد حتى إنّه حكم عليه سنة2014 بكنس الشوارع لمدّة عام(؟)من أجل تهرّبه من دفع الضّرائب ، ولكنّه استطاع من خلال امبراطوريّته الماليّة والإعلامية أن يصل إلى سدّة الحكم في إيطاليا بل وأن يستمرّ بها من انتخابات إلى أخرى أكثر من مرّة .

أمّا أدولف هتلر فقد استطاع بأسلوبه الخطابيّ الحماسيّ أن يغازل مشاعر التّفوق النّاتجة عن القهر القوميّ الذي فرضته معاهدة فرساي على الأمّة الألمانيّة،وذلك لينجح في الاستحقاق الانتخابيّ،ثمّ ليفرض النّظام النّازيّ ويخوض بالشّباب الألمانيّ بعد ذلك مغامرات حربيّة قاتلة كان لها آثارها المدمّرة على حياة البشريّة بأكملها دون أن يتّضح إلى حدّ اليوم بجلاء كاف: لفائدة من كان كلّ ذلك ؟

ورغم هذا فإنّ ما قاله ونستون تشرشل حول الدّيمقراطية بصفة عامّة يمكن أن يبقى صالحا – ولو في حدود – لتوصيف النظام النّيابيّ باعتباره عند النّهاية وجها من وجوه الدّيمقراطية ونموذجا من نماذجها؛

وإذ نعتبر هذا التّوصيف صحيحا نسبيّا فلأنّ التّاريخ جعلنا نقف على قدرة الدّيمقراطيّة – مهما كان وجهها ومن خلال آليّتي حرّية التّفكير وحرّية التّعبير- على تعديل نفسها بنفسها، فمن ثمّة قدرتها حسب موازين القوى على تجاوز ما يظهر بجلاء من أخطائها ومساوئها ؛

وهكذا يمكن القول إنّ الفكر الدّيمقراطيّ في عمومه يبقى به متّسع على الدّوام لتصوّرات جديدة تطوّر خطابه،ولتطبيقات مغايرة ومتغيّرة قد تنحو به نحو تحقيق حكم الشعب لنفسه بنفسه ؛

ونريد هنا أن نستحضر تجربة ” السّاندينست” بالنّيكاراغوا بزعامة دانيال أورتيقا ؛ و”السّاندينيست” هم أحفاد أوقيستو ساندينو الذي قاوم الإحتلال الأمريكي الشّماليّ من سنة 1927 إلى سنة 1933، وقد ثار الحاملون لأفكاره ضدّ سلالة “آل سوموزا” الحاكمة لبلادهم ، وهي سلالة دمويّة وعميلة ، وحملوا السّلاح باسم الشّعب لإسقاطها والتخلص من فسادها، ونجحوا في ذلك سنة 1979 ؛

لكنّ المعادلات الدّاخليّة والدّوليّة لم تسمح لهم بالاستمرار في الحكم إذ أزيحوا منه سنة 1990 بفعل التدخّل الإمبرياليّ الأمريكيّ والأرجنتينيّ الدّاعم بالسّلاح وبالمال لفلول   ” الكونترا ” أي لفلول العصابات المضادّة للثورة ؛

أمّا المفاجأة التّاريخيّة فقد تمثّلت في أنّ هؤلاء “السّاندينيست “عادوا إلى الحكم من جديد بواسطة صندوق الاقتراع سنة 2006 وأعادوا الكرّة سنة 2011 ، وهم يخوضون في هذه السّنين مع غيرهم من السّياسيين في بلدان أمريكا اللاّتينية أو الجنوبيّة تجارب تنمويّة رائدة طامحة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية وقاطعة مع إملاءات صندوق النّقد الدّوليّ ومع التّوجّهات الهيمنيّة لليانكيّين بالشّمال الأمريكي ، .

فيتّضح من خلال هذا أنّ الصّندوق الانتخابيّ حتّى في النّظام النّيابي يمكن أن يكون ضامنا – في حدود قد تتّسع أو تضيق حسب الظّروف العينيّة وحسب موازين القوى الحقيقية في المجتمعات – لتحقيق الإرادة الشعبية إلى هذا الحدّ أو الآخر ؛

ومادام الأمر كذلك فإنّ المجال يبقى مفتوحا دائما للاهتداء إلى أفضل النماذج لإرساء سلطة الشّعب، كما لإقرار الضّمانات التي يمكن ويجب أن توفّرها مختلف الأنظمة الانتخابيّة النيابيّة حتّى يوجد توافق فعليّ بين نتيجة الصّندوق وبين إرادة الشّعب.

وإذا توقّفنا لحظة هنا وعلى سبيل المثال عند انتفاضة 17 ديسمبر2010 للشّعب التّونسيّ التي سمّيت “ثورة ” وما كانت كذلك لافتقارها للبعد الثقافيّ الجديد وللأفق التّاريخيّ البديل،والتي “بارَكها” البعض تحت مسمّى “ثورة الياسمين”(؟) واعتبرت “نموذجا عالميّا لثورات القرن الحادي والعشرين”، و”فاتحة ” لما سمّي “ثورات الرّبيع العربي ” (شهدنا أعلى الدّرجات المأساوية لهذا “الرّبيع” في ليبيا ثمّ في سوريا)، فإن هذه الانتفاضة – التي تمّت في الأساس بصورة شبه عفويّة ضد الاستبداد والفساد والعمالة ، قبل أن يتمّ اختراقها امبرياليّا شأنها في ذلك شأن بقيّة الانتفاضات العربيّة مع اختلاف نسب الاختراق وظروفه – ستوفّر لنا من التّفاصيل ما يجعلنا نقف فوق أرضية صلبة تسمح لنا بطرح ما ينبغي من الاعتبارات التي بإمكانها مساعدتنا على رسم آفاق جديدة على درب التّحرّر الشّـــــاقّ للشّعوب.

فبعد انتخابات 23 أكتوبر 2011 التي عاشها الشّعب التّونسي على إثر عقود من حكم الحزب الواحد والتّزوير الفجّ لإرادة الناخبين،وهي الانتخابات التي أفرزت مجلسا تأسيسيّا متنوّعا لكنّه سرعان ما أعلن انّه ”سيّد نفسه ” ثمّ شابت أداءه شطحات أنانيّة ليس أقلها تنكّره لأجل العام الواحد الذي تمّ انتخابه على أساسه و مسارعته إلى الزّيادات المجحفة في رواتب أعضائه دون مراعاة للتدهور الاقتصادي العام بالبلاد،ثمّ انتهى بعد لأي إلى صياغة دستور توافقيّ كرّس الطّابع المدنيّ للدّولة لكنّه لم يأبه بالاعتبارات الوطنيّة والتي منها مطلب مقاومة التّطبيع مع الكيان الصّهيوني.ّ

وبعد حكومة ”التّرويكا ” التي انبثقت عن ذلك المجلس والمكوّنة من حزب دينيّ (حركة النهضة) متحالف مع حزبين صغيرين متغلّفين بمسوح من العَلمانية(المؤتمر والتّكتّل) ،وهي الحكومة التي انتهى بها الأمر وعلى خلفيّة الفشل الأمني (إرهاب واغتيالات) والفشل الاقتصادي(الدّنو من الإفلاس) ، إلى التنحّي مع بداية 2014، تحت ضغط الشارع ،عن الحكم ،تاركة المجال لحكومة   “تكونوقراط”جاءت بها فعاليّات “حوار وطنيّ” رعته أربعة منظّمات من المجتمع المدنيّ بقيادة المنظّمة العمّاليّة الكبرى(الاتحاد العامّ التونسيّ للشّغل) ودعّمته بشكل واضح بعض الأوساط الماليّة والدّيبلوماسية الخارجيّة

قلنا إنه بعد كل ماسبق انفتحت الأبواب على موعد انتخابيّ جديد تمّ تعيينه ليوم 26 أكتوبر 2014 أمام شعب شعر بالقرف من أطماع السّياسيّين ومرّ بصعوبات معيشيّة غير مسبوقة وعرف تدهورا أمنيّا غير معهود مثّلته بؤر إرهابيّة موجودة خاصّة بجبل الشعانبيّ في وسط البلاد التونسية، وهي بؤر على تواصل مع مثيلاتها بجارة تونس الشرقيّة (ليبيا) وتنشط على خلفية المساعي الصّهيونية والامبرياليّة المحمومة لضرب جارة تونس الغربية بواسطة “ربيع عربي” جزائريّ مبرمج ومعلن عنه فوق ذلك على ما صرح بذلك وبصورة متزامنة كل من برنار هنري ليفي وأيمن الظواهري(…) ؛

ولكنّ هذا الشّعب التّونسيّ الذي لم يكن يعرف عند تعيين الموعد الانتخابي الجديد إلى أين ستؤدي به هذه المحطّة – إذا قدّرت لها مختلف المعادلات أن تكون- كان يفهم حسّيّا أنّها إذا لم تكن فستنفتح أمامه أبواب المجهول، أمّا إذا كانت فإنّ تساؤله سيتمحور بعدها وبالضّرورة حول حقيقة النّظام الانتخابيّ النّيابي الذي تمّ إقراره سعيا لمعرفة ما إذا أدّى عمليّا أم لم يؤدّ إلى التّعبير عن إرادته أم إنه كان فقط أداة لتنفيذ إرادة القوى الكونية المهيمنة، وحول ما إذا كان هو أفضل الأنظمة الممكنة أم هل هناك أنظمة أخرى قد تكون أفضل منه ؟ وربّما أمكنه أن يتساءل أيضا حول مختلف النّماذج الدّيمقراطية وحول أفضلها بالنّسبة لمستقبلوطني واجتماعي وديمقراطي حقيقيّ ؟

إن النّظام النّيابي الذي تمّ إقراره لانتخابات 26 أكتوبر 2014 من قبل المجلس التأسيسي التونسي وَهو نظام القوائم مع اعتبار أكبر البواقي ليس إلّا نظاما من ضمن أنظمة كثيرة ضمن النموذج الديمقراطيّ النيابيّ ،وكان بالإمكان اختيار غيره ، وبما أنّه نفس النّظام الذي أقرّته بعيد انتفاضة 17 ديسمبر 2010 هيئة “إصلاح سّياسيّ” وقع ارتجالها آنذاك وأسندت رئاستها لأحد أساتذة القانون ،وعلى أساسه تمّت الانتخابات الأولى التي جرت يوم 23 أكتوبر 2011 ، فإنّه يكون من الواجب وعند هذا الحدّ التذكير بأن رئيس هذه الهيئة كان أقرّ في تصريح موثّق أنّها استفادت عند سنّها لذلك النّظام الانتخابيّ بالذّات من دعم المنظّمة العالميّة للأنظمة الانتخابيّة المعروفة باسم “آيفاس ” International foundation for electoral systems ( IFES )

فهذا التّصريح يفتح الباب للتّساؤل بصورة مشروعة حول نوعيّة هذا الدّعم ؟

وعمّا إذا كانت (آيفاس ) قدّمت لشعب تونس أفضل نصائحها أم إنّها كغيرها من المنظّمات العالميّة كانت في تدخّلها خادمة أمينة لمصالح الأقوياء في الكون وعاملة في الحقيقة على تثبيت وكلاء لهم محلّيّا،التفافا على طموحات أغلبيّة الشّعب التّونسي الرّامية حسب شعارات انتفاضة 17 ديسمبر 2010 إلى تحقيق العدالة الاجتماعية (الشّغل) والحرّية السّياسيّة والكرامة الوطنيّة ؟

وبناء عليه فإنّه سيحقّ التّساؤل أيضا عند النّهاية حول ماهية النّموذج الدّيمقراطي أو النّظام الانتخابيّ النّيابي الذي من شأنه عند تبنّيه أن يمكّن – نظريّا وعمليّا- من إفراز واقع سياسيّ واجتماعيّ مطابق ولو نسبيّا لإرادة الشعب وغير مؤدّ إلى إعادة إنتاج مساوئ الماضي مع شيء من الترقيع فقط ؟

فمن خلال هذه الوقفة عند تطورات الانتفاضة التّونسية كانتفاضة أريد لها في حدود معينة أن تكون مثالا للأزمنة الحديثة … يبرز لنا إذن أنه يبقى من واجب القيادات السّياسيّة الصّادقة والواعية في كل مكان ، كما من واجب النّخب الحقوقيّة والمعرفيّة الملتصقة بهموم الشعب،أن تقدّم للجماهير- على الدّوام – في أطر وطنيّة ميدانيّة متفاعلة بالإيجاب مع تجارب الشّعوب الأخرى ، ما يجب على هذه الجماهير معرفته حول النّماذج الدّيمقراطية المختلفة، والعمل معها من خلال تعرّجات الصّراع الوطنيّ والاجتماعيّ على فرض المتناسب منها مع إرساء سلطة الشّعب بصورة فعلية عندما تكون الظروف ملائمة لذلك، ويستتبع ذلك عندما تكون الظروف أقلّ تلاؤما ، تقديم كلّ المعلّومات اللاّزمة حول مختلف الأنظمة الانتخابيّة النّيابيّة بمحاسنها وبمساوئها وحول أكثر أنظمة المراقبة والملاحظة جدّية وحول أفضل الطرق لإدارة الانتخابات وحول السّبل الكفيلة عمليّا بمقاومة الغشّ الانتخابي وبوقف كلّ تأثير للمال الانتخابيّ الفاسد ، فمن خلال ذلك تحديد التّكتيك المناسب حسب موازين القوى أكان المشاركة الهادفة لتحقيق تقدّم لفائدة الشّعب على درب تحرّره الحقيقي– مهما كان هذا التقدم كمّيّا – ،أو المقاطعة النّشيطة الهادفة لكشف المخططات المعادية لطموحات الشعب ومحاولة إحباطها، لأن هذين التّكتيكين لا يتحدّدان بصورة مطلقة وإنما تفرضهما الظروف العينية للصّراع،فيكون من الواجب طرحهما وممارستهما بما يخدم مصلحة الأّهداف التّاريخية للشّعب لا بما يخدم أهواء طلّاب الزّعامة والرئاسة؛

والمبدأ هنا هو أنه يبقى من حقّ كلّ الشّعوب أن تصل إلى الانعتاق والتحرّر بكلّ الطّرق المشروعة بما في ذلك طريق الانتخابات النّيابية على أن تكون هذه الانتخابات معبّرة عن الإرادة الفعليّة للنّاس، كما من حقّها(أي الشّعوب) أن تصل عند النّهاية إلى نموذج ديمقراطيّ حقيقيّ وممكن يجسّم في ظل أرقى الحرّيات السّياسيّة آمالها في إلغاء كل أنواع الاستغلال المسلّط على طاقاتها الكادحة وفي وقف كلّ أشكال النّهب المسلّط على خيراتها الوطنيّة.

تونس – أكتوبر(تشرين الأول)2014 نشر هذا النص بمجلة ” المحاماة” التي يصدرها مركز الدراسات والبحوث للمحامين التولسيين ،عدد 6 – ديسمبر 2014                                                          

الكاتب محام / من مؤسّسي الجبهة الشّعبية التّونسية/ منسق شبكة المناضلين الجبهويين المستقلين بتونس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى