ضرورة إعادة كتابة التاريخ بقلم د.بثينة شعبان
بعد أن حدّثني صديق مؤرّخ عن المفارقات التي اكتشفها بين التاريخ الرسمي وبين ما توصّل إليه نتيجة البحث والتدقيق، سألته لماذا لا تكتب كلّ هذه الاستنتاجات الموثّقة لأجيالنا القادمة؟ أجابني لأنّ ما أكتبه سوف يثبت أنّ معظم التاريخ الذي ندرسه ونعلّمه للأجيال هو تاريخ غير دقيق، لأنه كُتب بشكل منحاز لسلطان أو ملك أو مذهب. وأيضاً حين طلبت من قامات هامة سياسية وعسكرية أن أوثّق سيرهم الذاتية كانوا على الغالب يجيبونني من سيُصدّقُ روايتنا المختلفة جذرياً عن التاريخ المكتوب في معظم الكتب المدرسية. أمّا اليوم، وبعد انكشاف لقاء رئيس أركان الكيان الصهيوني مع مجلة «إيلاف» السعودية، وتصريحاته بأنّ السعودية لم تكن يوماً عدوّة لإسرائيل، (وكلامه هذا حقيقة معروفة ولكن المؤرخين العرب يغضّون النظر عنها تحت تأثير الاستبداد السياسي والمالي السعودي) فهي لم تحارب إسرائيل يوماً ما ضمن الواجب الوطني وإعادة قراءة تاريخنا العربي القديم والمعاصر، وربما إعادة كتابته استناداً إلى الحقائق مهما كانت الصدمة التي تسبّبها هذه الحقائق لكلّ من قرأ ويقرأ التاريخ الرسميّ. إذ أنّ إحدى الإشكالات التي نورّثها للأجيال العربية هي إشكالية هذا التاريخ والمغالطة والمبالغة في رواية الأحداث، الأمر الذي يسبّب تراكمات أكبر وأدهى جيلاً بعد جيل. إنّ لقاءات إيزنكوت، رئيس الأركان الإسرائيلي، مع منشورة «إيلاف» السعودية يجب ألّا يكون مفاجئاً لأحد بعد الخطوات التطبيعية التي تمّ الإعلان عنها في مراحل مختلفة بين السعودية والكيان الصهيوني. ولكنّ الأهمّ هو أنّ اللقاء السعودي الصهيوني بدأ حتى قبل قيام دولة الكيان، عام 1948، حين التقى ابن سعود مع الرئيس الأمريكي روزفلت على متن حاملة طائرات أمريكية في البحر الأحمر عام 1945، واتفقا على صفقة النفط مقابل الحماية، وعقد فيها ابن سعود حلفاً استراتيجياً مع الولايات المتحدة. ولا شكّ أنّ هذا التحالف يتضمّن أول ما يتضمّن الموقف من الكيان الصهيوني، والذي وإن كان مستتراً لبعض من الزمن، فإنه كان حقيقياً في خدمة هذا الكيان، وضدّ المصلحة الفلسطينية والعربية. وإذا ما تمّت مراجعة لقاءات القمم العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي أو لجنة القدس بشيء من الحيادية والتقييم الموضوعي، نستكشف أنّ القوى العربية الرجعية قد بذلت أقصى جهدها في معظم القرارات العربية والإسلامية كي لا يكون القرار حاسماً لصالح القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني. أمّا الآن، وقد انكشف المستور فعلاً، وتبيّن للجميع أنّ كلّ الاتهامات التي كان يكيلها الرئيس جمال عبد الناصر والرئيس حافظ الأسد، ومؤخراً الرئيس بشار الأسد والسيد حسن نصر الله، لأعراب الخليج لم تكن مجرّد اتهامات، بل كانت حقائق صلبة يتمّ إخفاؤها بطريقة أو بأخرى أو الالتفاف عليها من خلال أساليب تغطي على جوهرها الذي يصبّ في مصلحة الأعداء على حساب الأخوة والأشقاء.
وقياساً على ما سبق، وكي لا نبقى منغمسين في الأوهام، ولكي لا نضيّع حقباً أخرى من تاريخنا، نخجل من مواجهة الحقائق بكلّ جرأة وشفافية، علينا أن نطرح الأسئلة المتعلّقة بالسياسات المستجدة اليوم. فما الذي يدفع السعودية أن تناصب الجمهورية الإسلامية الإيرانية العداء، وأن تهدّد بشنّ حرب عليها حتى قبل انتهاء حربها على اليمن، سوى تقديم الخدمة لمصالح الكيان الصهيوني، علماً أنّ الكيان الصهيوني هو الوحيد الذي يناصب إيران كلّ هذا العداء، والسبب في ذلك هو أنّ إيران أغلقت السفارة الإسرائيلية في طهران بعد الثورة الإسلامية، وفتحت سفارة لفلسطين، ودعمت المقاومة، ومازالت، وجعلت من تحرير القدس قضيتها المقدّسة. بينما قبل الثورة في إيران كان زعماء الخليج يقبّلون يد الشاه، وكان شاه إيران المعتمد إسرائيلياً وغربياً، وكانت إيران الشاه الصديقة الأولى لإسرائيل والغرب. التغيير إذاً هو بسبب الموقف من القضية الفلسطينية، ولا شيء سواه. ولو كانت الجمهورية الإسلامية الإيرانية اليوم لا تقيم وزناً للقضية الفلسطينية، وتقف تماماً على الحياد من هذا الصراع العربي – الصهيوني لما وجد الغرب وربيبته، إسرائيل، حرجاً في نسج أقوى العلاقات مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية نفسها. إذاً المشكلة ليست في الدين، وليست بين السنّة والشيعة، كما يشيعون، ولكنّ جوهر المسألة يكمن في الموقف من القضية الفلسطينية، ومن الصراع العربي – الصهيوني. وقياساً على هذا أيضاً لمصلحة من يتمّ تدمير اليمن العزيز، ذلك البلد الذي يكتنز على ترابه أعرق ما يمثّل حضارتنا العربية، والذي خرجت منه الهجرات إلى معظم الدول العربية، وهو بذلك يمثّل جذر العرب وحضارتهم. ما هو المنطق الذي يدفع آل سعود لتدمير حضارة اليمن وأهله وشعبه إن لم تكنْ خدمة مجانية للكيان الصهيوني الذي يعمل على إبادة الحضارة العربية كي يكون بعد مئتي عام القوّة الوحيدة المسيطرة على هذه الجغرافيا؟ والتحليل ذاته ينطبق على دور السعودية في السماح للطائرات الأمريكية بقصف العراق واحتلاله والدور القطري والسعودي في استقدام الإرهاب إلى سورية وتمويل وتغذية أبشع حرب تمّ شنّها على الشعب العربي السوري في كلّ أنحاء البلاد. القراءة الصريحة والدقيقة للتاريخ منذ منتصف القرن الماضي، وحتى اليوم تبرهن دون أدنى شكّ أنّ آل سعود لعبوا دوراً أساسياً في خدمة الكيان الصهيوني، وضدّ المصلحة الجوهرية والاستراتيجية للعرب وقضاياهم المركزية. الاستنتاج إذاً هو ألّا جديد في الأمر، سوى أنّ التاريخ الحقيقي بدأ ينكشف اليوم، وعلينا أن نعيد قراءة تاريخنا وأن نعيد كتابته بما يتلاءم مع الحقائق، وبعيداً عن المراعاة والمجاملات، مهما كان هذا صادماً للأجيال التي يجب أن تبني مواقفها على الحقائق، وليس على المجاملات والمراعاة. لقد آن الأوان لفرز الغثّ من السمين في تاريخنا، وتسمية الأشياء بأسمائها، والبناء على أرض صلبة وليس على رمال متحرّكة لا قرار لها ولا استقرار معها.