مقالات مختارة

بعد فشل مشروع البرزاني: حق تحسين المصير أجدى مرحلياً: عصام نعمان

 

انتهى مشروع مسعود البرزاني في كردستان العراق الى فشلٍ مدوٍّ. الفشل أدّى الى تنحّي البرزاني عن رئاسة الإقليم، والإساءة الى سلالته السياسية، وخسارة الإقليم مناطق وحقول نفطٍ كان اقتطعها على نحوٍ مخالفٍ للدستور ومسيء الى الوحدة الوطنية، كما أدّى الى انقسام الكرد على أنفسهم .

ما الدروس المستخلصة من هذه التجربة المرّة؟

كثيراً ما رفع بعض الكرد في العراق وسورية وتركيا وإيران لواء حق تقرير المصير لتبرير دعوتهم الى الاستقلال عن كيانات سياسية تضمّهم مع أقوام وجماعات أخرى. والمفارقة أنّ هذه الأقوام والجماعات الأكثر عدداً والأقدم وجوداً ورسوخاً في الكيانات المُراد الانفصال عنها كانت حُرمت عنوة من حق تقرير المصير بعد انهيار السلطنة العثمانية، وتقاسم تركتها بين بريطانيا وفرنسا المنتصرتين في الحرب العالمية الأولى 1918-1914. فالعرب في بلاد الشام وبلاد الرافدين حُرموا من ممارسة حق تقرير المصير، وجرى استحداث كيانات سياسية خمسة في ربوعهم العراق وسورية ولبنان وشرق الأردن وفلسطين لتقاسم السيطرة عليهم، سكاناً وموارد. والأرمن في تركيا، كما الكرد، في شمال شرق تركيا، حرموا من حق تقرير المصير وعانوا، وما زالوا، من آلام القسمة والتقاسم والاستبداد الذي مارسته عليهم حكومات تركيا بعد إعلان نظامها الجمهوري العام 1923.

ثمّة مفارقة أخرى في علاقة الكرد بالعرب هي أنّ كليهما صنعا وعاشا تاريخاً مشتركاً في عهدي الخلافتين العباسية والفاطمية. نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي الكرديان لعبا أدواراً تاريخية في العراق وسورية، ولا سيما في محاربة الفرنجة الصليبيين . وفي التاريخ الحديث كانت لرجالات الكرد أدوار بارزة في العراق وسورية. لعلّ قلة من الناس تعرف أنّ بطل مقاومة الفرنسيين الغزاة في سورية يوسف العظمة، وزير الدفاع في حكومة الأمير فيصل بن الحسين، كان من أصل كردي. كذلك بطل النضال ضدّ الانتداب الفرنسي إبراهيم هنانو، كان من أصل كردي. إلى ذلك، ترأس الجمهورية العربية السورية بعد الاستقلال ثلاثة من أصل كردي: حسني الزعيم، وفوزي سلو، وأديب الشيشكلي.

يتحصّل من ذلك كله أنّ أزمان العيش المشترك عهوداً وعصوراً، وتجارب النضال المشترك ضدّ أعداء مشتركين أدّت إلى دمج الأقوام والجماعات في بلاد العرب في تجربة حياتية وحضارية متميّزة ارتقت بهم الى مرتبة تكوين أمة واحدة متنوّعة في تركيبتها الإجتماعية. في هذه الحال، يصعب على أحد مكوّنات الأمة أن يحاول منفرداً الانفصال عن جسمها المتكامل والتسبّب تالياً في تفكيكه وانهياره.

ليس أدلّ على صعوبة تفكيك جسم سياسي واجتماعي متكامل من موقف قسم كبير من الكرد العراقيين المعارضين لمشروع البرزاني الإنفصالي. فلولا مشاركة الكرد المناصرين لحزب رئيس الجمهورية الكردي الراحل جلال الطالباني لما تمكّن الجيش العراقي من استعادة كركوك بالسرعة والسهولة الملحوظتين.

اليوم، إذ يتورّط بعض الكرد السوريين المنخرطين في «قوات سورية الديمقراطية قسد» في لعبة أميركا الرامية إلى منع الجيش السوري من استعادة مدينة البوكمال الحدودية بقصد فصل سورية عن العراق والحؤول دون تعاونهما في وجه الإرهاب التكفيري ومن ورائه «إسرائيل»، يتصدّى قدري جميل، الكردي الأصل، رئيس حزب الإرادة الشعبية للتغيير ورئيس منصة موسكو للمعارضة السورية، يتصدّى للداعين الى اعتماد الفدرالية في سورية في مرحلة ما بعد الحرب. يقول قدري جميل: «إنّ خصائص المجتمع السوري المتنوّع لا تسمح باعتماد الفدرالية، إذا أرادت البلاد الحفاظ على وحدتها لأنّ إضعاف سلطة المركز الى الحدّ الأدنى يمكن أن يؤدّي الى تفتيت الدولة».

إلى ذلك، تلعب موازين القوى دوراً محورياً في دعم ممارسة دعاوى حق تقرير المصير أو في تفشيله، والدليل ما حدث في كردستان العراق وكتالونيا. فقد عارضت دول العراق وإيران وتركيا وسورية مشروع البرزاني الانفصالي وحاصرته سياسياً واقتصادياً ما أدّى إلى انهياره. وفي كتالونيا، عارضت حكومة اسبانيا المركزية وساندتها معظم دول الاتحاد الأوروبي المشروع الانفصالي رغم تأييد قسم كبير من الكتالونيين له، فكان أن انهار بسرعة قياسية.

في ضوء هذه التجارب والتطورات يستقيم الاستنتاج انّ حق تقرير المصير، رغم أحقيته الأخلاقية والقانونية ومشروعيته المستمدة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتمتعه أحياناً بدعم أكثريةٍ وازنة في الزمان والمكان، يبقى حقاً نظرياً وأسير ظروف محلية معقدة وعدائية، كما أسير موازين قوى إقليمية ودولية معادية ما يجعله عصيّاً على التحقيق.

هذه التحديات والصعوبات والتعقيدات التي يواجهها بعض الكرد العراقيين والسوريين المطالبين بحق تقريرالمصير يحملني، شأن كثيرين غيري، على طرح فكرة بديلة قوامها إنّ حق تحسين المصير أجدى في الظروف الراهنة البائسة التي يعيشها عالم العرب من حق تقريرالمصير. فالكرد، وغيرهم من الاثنيات في عالمنا، باتوا جزءاً عضوياً حياً من نسيج اجتماعنا السياسي، يعانون شأن الأكثرية الساحقة من الشعب، الانتهاكات والصعوبات والتحديات نفسها، الأمر الذي يستوجب نهوض المتضرّرين مجتمعين إلى مواجهتها والنضال بلا هوادة من أجل إزالتها وتكوين أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية سليمة ومنتجة في دولة مدنية ديمقراطية تقوم على أسس الحرية والمواطنة وحكم القانون والعدالة والتنمية.

ألا تستحق هذه الفكرة مناقشة هادئة وهادفة بين جميع المعنيين بحق تقرير المصير وبحق تحسينه، بل بجدوى أولويته، أيضاً؟

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى