واشنطن وموسكو: إشكاليات التعاون والمواجهة
ناصر قنديل
– محوران تستمرّ عليهما الحرب الأميركية ضدّ روسيا، مقابل محورين يشهدان تعاوناً متنامياً، وفي خلفية المشهد محوران ينتظران حاصل الصورة الإجمالية، حتى بدا المشهد سوريالياً بعض الأحيان، فموسكو وواشنطن لا تنكران أنّ تعاونهما أساسيّ لنجاح المفاوضات الخاصة بالملف النووي الإيراني، الذي يشكل القضية الدولية الأولى، لارتباطه بترتيب العلاقة بين القوة العالمية الأهمّ والقوة الإقليمية الأهمّ، في المنطقة الأهمّ في العالم والزمن الأهمّ، كما لا يخفي الأميركيون والروس تعاونهما في المساعي للحلّ السياسي في سورية، كما ظهر بقوة من التشجيع الأميركي لمبادرة الحوار التي انطلقت قبل أسبوع في موسكو بين وفدين حكومي ومعارض، وثبت أنّ ما بدأ في موسكو هو مسار لا مجرّد حلقة حوار، وكما في الملف النووي الإيراني في التعاون حول سورية، يبدو أنّ التعاون الأميركي الروسي يتمّ وفقاً لسيناريو وتقاسم أدوار، لا يتمّان إلا بين حلفاء، وفي الملفين من الواضح أنّ روسيا هي صاحبة الرؤية وأميركا هي صاحبة المأزق، والحلول التي تسير قدماً لا تحرج موسكو مع حليفيها في دمشق وطهران بقدر ما تنسجم مع تطلعاتهما وتحترم خطوطهما الحمراء، وبدرجة معينة تعكس ما أنجزاه بدعم روسيا في صناعة موازين القوى التي أسقطت السقوف التي كانت تتطلع إليها أميركا.
– المحوران التصادميان متواصلان بقوة وعنف حتى حافة الحرب الشاملة، محور النزاع في أوكرانيا، ومحور العقوبات الاقتصادية على روسيا. في أوكرانيا تريد واشنطن إنهاك موسكو أمنياً وسياسياً، بتهديدها في حديقتها الخلفية، وفي الثاني إنهاك اقتصادي بلغ حدّ الدخول في حرب أسعار النفط لتجفيف الموارد المالية التي تستند إليها الحكومة الروسية. والواضح أنّ اللغة المعتمدة من موسكو وواشنطن في المحورين هي لغة يتخاطب عبرها الأعداء فقط، ومكانة المحورين في الأولويات بين الدولتين الأعظم في العالم حساسة وحاسمة بصورة لا تضعهما دون مستوى محوري التعاون حول إيران وسورية. فواشنطن تراهن على إنهاك موسكو لينخفض سقفها في اللحظات الحاسمة لبلوغ المسارين السوري والإيراني الشوط الأخير، وموسكو تراهن على بلوغ واشنطن لحظة نفاد الوقت الذي تملك المناورة فيه قبل بلوغ خط النهاية، مع خروجها من أفغانستان، وحاجتها إلى خريطة شرق أوسط جديد يضغط عليها مع انتكاسة حلفائها، التركي والسعودي و«الإسرائيلي»، وظهور الخطر المتنامي للإرهاب، للإسراع في بلورة التفاهمات. وهنا نصير أمام خنجر في الخصر يدمي، لكن مع ابتسامة على الوجه.
– يبقى المحوران الواقفان في الخلف ينتظران، المحور الأول هو خريطة أوروبا العسكرية والأمنية والسياسية الجديدة، ومن ضمنها مصير خطط توسيع الأطلسي وخريطة نشر الدرع الصاروخية في الروزنامة الأميركية، والدخول القوي في قلب اللعبة الأوروبية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً على الروزنامة الروسية من موقع الشريك الكامل في الجغرافيا والتكوين الديني والسكاني في الأصول الموزعة بين الكاثوليك والأرثوذكس من جهة والجرمانية والصربية من جهة مقابلة، وصولاً إلى تطلع موسكو لتحييد أوروبا من التوازنات مع واشنطن، وتطلع واشنطن إلى جعل أوروبا خط المواجهة المتقدم ودفع روسيا لتصير دولة شرق أوسطية. وبناء على هذه الخلاصة وبالتالي خلاصة ما سيجري على رقعة شطرنج تتشكل من ملفي أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية، وعلى رأسها حرب الأسعار، سيرسم موقع أوروبا، في صراع دام بين رهان واشنطن على نفاد وقود موسكو أمنياً ومالياً ورهان موسكو على نفاد وقت واشنطن في رحلة دخول الحرب على الإرهاب والخروج من أفغانستان، ليرتسم مصير المحور الثاني الأخير الواقف في آخر الانتظارات، ماهية النظام العالمي الجديد الذي تشكل الشراكة بين موسكو وواشنطن ركيزته الرئيسية، وهي شراكة تسلّم بها واشنطن بعد إنكار مديد منذ سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، لكنها تسعى إلى جعلها شراكة بالمفرّق، لملفات دون سواها، تحفظ لها دور المقرّر في السياسة والاقتصاد والأمن في مستقبل العالم وتمنح روسيا دور الشريك الفرعي بحدود الفاعلية والحاجة في الملفات، بينما تتطلع موسكو وتصرّ على الشراكة الكاملة والندية، والحرب سجال.
– لا نبالغ إذا قلنا أمام هذه اللوحة، إنّ ما يجري في أوكرانيا وأسواق النفط، سيقرّر مصير العالم، وخريطته الجديدة، خصوصاً خريطة الشرق الأوسط وخريطة أوروبا، حتى يصير القول إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في السعودية فعليك أن تعرف ماذا يجري في أوكرانيا يحمل الكثير من الحقيقة، والواضح أنّ رهانات نفاد الوقود الروسي والوقت الأميركي محكومة بسقوف سريعة وقريبة المواعيد، وها نحن نشهد طلائع التبشير بالنهايات، فما نشرته «نيويورك تايمز» عن مفاوضات سعودية روسية حول مقايضة بين حرب الأسعار النفطية ومستقبل سورية، ليس خبراً، والتكذيب الروسي ليس شأناً إعلامياً، الأمر هنا أنّ أميركا تقدم عرضاً وروسيا ترفض، أميركا تقيس خزان الوقود الروسي وروسيا تذكر الأميركيين بأنّ الوقت معها، وعلى الجبهة الأوكرانية، تصعيد عنيف ينتهي بإعلان أوروبي يدعو لوقف النار، والتزام فرنسي بوقف تسليح أوكرانيا، ودعوة ألمانية إلى الحلّ السياسي.
– موسكو تنجح في التقدم خطوة نحو خط النهاية، ويبدو أنّ الباقي خطوة قبل أن تصرخ السعودية التي أوكلت إليها واشنطن حرب الأسعار، وتصرخ ألمانيا وفرنسا اللتان أوكلت واشنطن إليهما حرب أوكرانيا.
(البناء)