فلسطين… واستراتيجية السيد نصر الله للتحرير: العميد د. أمين محمد حطيط
قد يكون العالم فوجئ بموقف السيد حسن نصرالله الأخير من القضية الفلسطينية وبالمقاربة الفذة التي أجراها ـ فالعالم اعتاد وللأسف على سلوكيات عربية تتراوح بين نظرية «الرمي في البحر» التي سادت قبل العام 1967، والاتصال السرّي بـ»إسرائيل» الى حدّ العمالة لها وخيانة القضية الفلسطينية والأمّة برمّتها، وقلة هي الدول العربية التي كانت صادقة إعلاناً وسراً في عدائها لـ«إسرائيل»، ورفضها التنازل عن حقوق الفلسطينيين خاصة والأمة عامة. وكذلك كان ظاهراً إلى حدّ ما عند الجميع الدمج بين الحركة الصهيونية باعتبارها حركة سياسية حليفة أو أداة للمدّ الاستعماري الغربي خاصة البريطاني، واليهود كأتباع دين سماوي لهم كتاب منزّل من الله على النبي موسى الذي يعترف به المسلمون، ليس كنبي فقط، بل أحد أولياء العزم الخمسة أيضاً الذين أوّلهم نوح وآخرهم محمد وأوسطهم موسى وبعده عيسى وقبله إبراهيم .
لقد استفادت الحركة الصهيونية كثيراً من الدمج بينها وبين اليهود، كما استفادت أيضاً من الإعلام الغوغائي المتضمّن فكرة رمي اليهود في البحر، وتمكّنت مستفيدة من أخطائنا أن تظهر نفسها بأنها الضحية بدلاً من أن تظهر حقيقتها بأنها المجرم والجلاد، ثم تمكّنت أن تؤلّب العالم على العرب وتكتل النسبة العالية من اليهود ومعهم العالم الغربي بمعظمه، تكتلهم ضدّ العرب حماية لـ«إسرائيل» التي باتت حمايتها بنظرهم واجباً إنسانياً وأخلاقياً وفرضاً قانونياً بعد أن اعتمدت معظم دول الغرب قانون حظر معاداة السامية، حيث استطاعت «إسرائيل» ان تحصر السامية بها وحدها، رغم أنّ اليهود والعرب من جذور سامية واحدة. وبهذا القانون بات انتقاد «إسرائيل» والتداول بجرائمها بحق الإنسان بات جريمة يعاقب عليها القانون إلى حدّ قطع الأعناق والأرزاق.
هذا الواقع الأسود الكئيب المرير كان بحاجة إلى قائد استراتيجي عميق الفهم بعيد النظر طليق الفكر الرؤيوي، من أجل أن يضع الأمور في نصابها الصحيح، ويسير بالقافلة في الاتجاه الذي يؤدّي إلى تحجيم العدو ومحاصرته تمهيداً للقضاء عليه بصفته عدواً مغتصباً لحق وليس بصفته أشخاصاً من أتباع دين سماوي محدّد.
وعلى هذه القاعدة يجب أن يُفهَم كلام السيد حسن نصرالله العاشورائي الأخير، فالسيد يرى وهو أصاب عين الحقيقة في رؤيته التي بناها على ركنين: الأول أنّ منطق الأمور يفرض التعامل مع الحقيقة، وليس مع الشبهة والتضليل، والثاني أنّ المواجهة الميدانية إذا فرضت وفي الحالة «الإسرائيلية» الصهيونية ستكون مفروضة في لحظة معيّنة لأكثر من اعتبار فستكون هذه المواجهة التي يجب حصرها إلى الحدّ الأدنى من حيث القوى المواجهة، ويجب التحشيد لها إلى الحدّ الأقصى من جهة الأطراف المطالبة بحقوقها.
وانطلاقاً من هذا الفهم والتخطيط الاستراتيجي جاء موقف السيد سيد المقاومة والفكر الاستراتيجي الحديث السيد حسن نصرالله في خطابه إلى كلّ مَن يعنيه أمر فلسطين أو متصل بها بشكل أو بآخر معتدياً أو مدافعاً عن حقوقه أو مطالباً بما اغتصب منها على يد عتاة المشروع الصهيوغربي الذي بدأ بقيادة بريطانية وتحوّل اليوم إلى قيادة أميركية من دون أن تبتعد بريطانيا عنه، وبات يصحّ وصفه بالمشروع الصهيوانكلوساكسوني الغربي.
أما المكوّنات المفصلية لهذه الاستراتيجية التي أطلقها السيد حسن نصرالله في خطابه العاشورائي الأخير، فيمكن ذكرها كالتالي:
1 ـ المعتدي في فلسطين والمغتصب لها ليس اليهود كديانة، والصراع في فلسطين وعلى أرض فلسطين ليس صراعاً بين الإسلام كدين واليهودية كدين. فالديانة اليهودية هي ديانة سماوية وأتباعها هم أهل كتاب، وكتابهم التوراة يؤمن المسلمون بأنه كتاب سماويّ طاله تحريف على يد بعض الأحبار، لكنه لم يفقد صفته السماوية، وبالتالي لا مشكلة بين الإسلام كدين واليهودية كدين، والتعامل بين الاثنين يجب أن يكون محكوماً بمبدأ «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء»، ثم «جادلهم بالتي هي أحسن».
2 ـ إنّ العدو الحقيقي لفلسطين والعرب والمسلمين هو الحركة الصهيونية. وهي حركة سياسية اتخذت من اليهود مادة وجعلتهم وقوداً في صراع وحروب ليس لهم بها شأن. وبالتالي فإنّ المنطق يفرض أن يُعزل اليهود عن الحركة الصهيونية برأسها وجسمها، وإنْ تمّ ذلك فإنّ حجم العدو يتراجع من 20 مليون يهودي مجموع اليهود في العالم الذين منحهم القانون «الإسرائيلي» الحق بالجنسية «الإسرائيلية» إلى 5 ملايين يهودي هم مَن استقطبتهم الصهيونية وجاؤوا الى فلسطين باعتبارها «أرض الميعاد».
3 ـ إنّ الفئة التي تمارس العداء وتريد الحروب فعلياً هم قادة الكيان «الإسرائيلي»، وبالتالي يكون منطقياً كشف التضليل وإيضاح الحقيقة لباقي الجمهور «الإسرائيلي»، بأنّ فلسطين لن تكون ملاذاً آمناً ولن تكون أرض لبن وعسل لهم، لأنها أرض مغتصبة، وأصحاب الحق فيها لن يتركوها ولن يتنازلوا عنها، وتكون العودة الجمهور «الإسرائيلي» إلى دياره الأصلية من مصلحته، حتى لا يكون وقوداً في حرب آتية لا محالة تتواجه فيها الحركة الصهيونية وخلفها المشروع الانكلوسكسوني، مع محور المقاومة الذي آل على نفسه وضع الحق في نصابه وإعادة كلّ فرد الى حيث كان في العام 1948. وبهذا أيضاً يكون السيد وفي ذكاء استراتيجي إبداعي عزل الطبقة الحاكمة في «إسرائيل» عن جمهورها وقلّل مرة أخرى من حجم مَن سيواجه في الميدان عندما يحلّ أجله.
4 ـ إنّ المعنيّ بالمواجهة لتحرير فلسطين، والذي سيشارك في الحرب عندما تستكمل شروطها، ليس الفلسطينيون فقط إنّ أكبر خطأ وكارثة استراتيجية كانت يوم اعتبرت القضية الفلسطينية ملكاً حصرياً لمنظمة التحرير الفلسطينية التي ذهبت إلى أوسلو وفرّطت بها بل إنّ المعنيين بها هم العرب كلهم والمسلمون والمسيحيون كلهم وسكان منطقة غرب آسيا وأحرار العالم كلهم، لذلك فإنّ المواجهة المقبلة مع الصهيونية ينبغي أن تكون بين معسكرين معسكر العدوان الصهيوانكلوساكسوني ومعسكر الدفاع والمقاومة، والفلسطينيون جزء منه.
5 ـ وأخيراً، فإنّ السيد حذّر الفئة الحاكمة في «إسرائيل» من مغبّة الهروب الى الأمام واللجوء إلى الحرب، فأكد واقعاً تعرفه وحقيقة باتت تعيشها، وهي أنّ المقاومة ومحورها جاهزان لأيّ حرب تبدأها «إسرائيل»، ولكنهما لن يبادرا إلى الحرب هم الآن. فإذا قامرت «إسرائيل» وشنّت عدواناً، فإنها ستجد نفسها أمام حرب مفتوحة في الزمان والمكان ومعسكر متعدّد القوى والمكوّنات، حرب لن تتوقف و «إسرائيل» موجودة. وهنا تبدو أهمية النصح الذي وجّهه السيد للجمهور «الإسرائيلي» بالقول: الحرب ليست حربكم، فلماذا تدفعون أنتم الثمن؟
في الخلاصة نرى السيد حسن نصرالله صحّح مفاهيم التعامل مع القضية الفلسطينية، وعمل على حصر العداء في من هم الأعداء فعلاً، ثم أنه عزّز معادلة الردع الاستراتيجي في المنطقة. ولهذا شاهدنا عظيم الاهتمام الغربي والصهيوني بخطاب السيد واستراتيجيته هذه، ويبقى على أصحاب الشأن عندنا أن يتابعوا في هذا الاتجاه…
(البناء)