ترامب يهدد بالإنسحاب من الاتفاق النووي وايران تعرض صاروخاً باليستياً جديداً د.منذر سليمان
ارتباك في صميم صنع القرار السياسي الأميركي كان ماثلاً أمام قادة العالم هي خلاصة الانطباعات وردود الأفعال بعد خطاب الرئيس ترامب أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وحيرة ارتسمت على وجوه الكثيرين من حلفاء واشنطن وتوابعها في الأقليم .
أغلبية المراقبين في واشنطن تعتقد أن خطاب ترامب تمت صياغته من أقرب مستشاريه المتطرفين، ممن لم يطالهم مقص الإقالة، ستيفن ميللر؛ طغت عليه مفردات الشطط والتشدد والمواجهة المقرون بخطاب اليمين الأميركي، وقطبه البارز من المحافظين الجدد.
لغة التصعيد والتهديد نالت كل من إيران وكوريا الشمالية وفنزويلا، بالدرجة الاولى، كمحطات تعزز ملامح “عقيدة ترامب؛” وكال الإتهامات التقليدية لسوريا وحركات المقاومة في لبنان وفلسطين، ولم يأتِ بجديد في مواقف وتوجهات واشنطن نحوها. حقيقة الأمر ان مجمل تلك المواقف شكلت “عودة واعية،” وربما اضطرارية، لقوائم الخطاب السياسي للحزب الجمهوري للسياسة الخارجية وتشعباتها.
ارتسمت على محيا الوفود الأجنبية الزائرة علامات الحيرة، كما نقلتها كاميرات شبكات التلفزة المتعددة، لمواقف ومفردات غاضبة وقاسية أعتقدوا أنها ذهبت أدراج الرياح مع غياب الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن، ليس فيما يتعلق بالسياسة الخارجية لأمريكا فحسب، بل لإصرار واشنطن على ادراج بند “اصلاح هيكل الأمم المتحدة” وفق وصفتها الطبية، الذي لا يحظى بإجماع، كمنصة إنطلاق لتطويع القرار الأممي لمصلحتها.
الخطاب الأول لترامب في الأمم المتحدة استمر لنحو 41 دقيقة، كان يرمي استنهاض جمهوره الأميركي بمفردات صيغت بعناية كبيرة: الإسراف في الحديث حول “منافع السيادة ومشاعر القومية والوطنية؛” وتدشين “عقيدة ترامب” الجديدة وعمادها تسديد أميركا ضربات وقائية لخصومها متى شاءت وتقديم تعهدات “لحرمان الدول المعادية والمارقة من اقتناء أسلحة دمار شامل.”
كما مر ترامب على محطات بارزة لتبرير ما كان يصبو إليه من حشد دعم دولي بقيادته. في البداية أعاد التذكير بأهمية قيادة واشنطن للنظام العالمي الراهن وصونها “للسلام والأمن العالميين” استناداَ إلى قوتها العسكرية. فضلاً عن “ترداد” السردية الرسمية بأن “الدول والنظم الاستبدادية تشكل تهديدا للقيم الأميركية؛” زاعماً بقوة أن بلاده “لم تطلب او تسعى للتوسع” على حساب أراضي الغير عقب الحرب العالمية الثانية.
أما ملامسة ترامب للقانون الدولي بـ “احترام سيادة الدول،” بصرف النظر عن دحض إدعائه بسهولة، فقد لقي ترحيباً كبيراً وحاراً بين أوساط المحافظين و”الليبراليين الجدد” على السواء، لما ينطوي عليه من تبرئة غير مباشرة لخطط الغزو والعدوان لأسلافه. وما لبث ترامب أن انقلب على الفكرة عينها محبذاً “التدخل في إيران وكوريا الشمالية.”
وسرعان ما لجأ ترامب لإرضاء غروره ومؤيديه بإعلانه توصله لقرار حول مصير الإتفاق النووي، لكنه يرجيء الإفصاح عنه لدواعي داخلية صرفة. وفي ذات السياق شن أشرس هجوم على رئيس كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، وتهديده “بتدمير بلاده بالكامل.”
البعض فسّر تصرف ترامب عند هذه المحطة بأنه كان يفي بوعوده الانتخابية للحفاظ على تماسك قاعدة مؤيديه؛ بل “تجسيد لتوجهات الثنائي (العقلانية نسبيا) نيكي هايلي وهيربرت ماكماستر السياسية،” المندوبة الدائمة في الأمم المتحدة ومستشار الأمن القومي، على التوالي.
يشار الى أن المندوبة هايلي أوضحت لجمهور معهد المشروع الأميركي، 5 أيلول الجاري، ان الإدارة الأميركية ستتخذ موقفاً حيادياً فيما يخص إحالة مصير الإتفاق الى الكونغرس – الذي سيتعين عليه اتخاذ إجراءات بمقاطعة مؤسسات تجارية “غير أميركية” لتعاملها مع إيران وما ينطوي على ذلك من معارضة شديدة من دول الإتحاد الاوروبي.
عند مرور ترامب على الملف النووي سلطت بعض المحطات المرئية كاميراتها على “رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو” لتنقل ردة فعله مغتبطاً ومصفقاً بحماس، استرعت انتباه المراقبين والسياسيين على السواء كدليل على “تنسيق” وثيق بين الطرفين حول هذه المسألة بالذات.
ما لم تلتفت إليه الكاميرات في سباقها الإعلامي هو ردة فعل مستشارة ترامب، كيلي آن كونوي، وهي جالسة ضمن الوفد الأميركي، لذكره مصطلح “سنضع حداً للتطرف الإسلامي الراديكالي،” إذ لجأت سريعاً الى “تويتر” قائلة “ها قد نطق بها،” لطمأنة فريق المشككين باتهام ترامب أنه “يتحاشى” ربط الإسلام بالتطرف.
فريق الغاء الإتفاق
قبل توجه ترامب لمقر الأمم المتحدة إنبرى ما يربو على “70 مسؤولاً اوروبياً” بتقديم مذكرة يناشدون فيها الكونغرس والرئيس ترامب معاً “المصادقة على التزام إيران ببنود الإتفاق،” وفق ما رصدته يومية لوس أنجليس تايمز، 18 أيلول الجاري؛ وحثهما على “قبول أسرع طريق” مضمون لمنع انتشار الأسلحة النووية. وحذرت المذكرة الجانب الأميركي بأن “خيار عدم المصادقة سيضر بمصداقية الولايات المتحدة مع أوروبا.”
من هي القوى والشخصيات المتضررة من الاتفاق النووي، سؤال بدأ يلمس جواباً حقيقياً قياساً مع المحرمات الأميركية السائدة بعدم التطرق “للعامل الاسرائيلي” ونفوذه في صياغة السياسة الخارجية الأميركية.
انفردت يومية بوسطن غلوب من بين المؤسسات الإعلامية التقليدية بتوجيه سهام انتقاداتها الى “كلٍ من إسرائيل والسعودية” لتسخيرهما نفوذهما القوي لدى ترامب وترجيح كفة إلغاء الإتفاق من جانب واحد. وقالت إن “سلوكهما المتهور سيسفر عن إغرائنا بشن حرب على إيران استناداً لمصالحهما الضيقة.” (20 أيلول).
تزامن تقرير الصحيفة أعلاه مع اتهام ضابط وكالة الإستخبارات المركزية السابق، فيليب جيرالدي، بنشره مقال لا تخطئه العين، 19 أيلول، حمل عنوان يهود أميركا يدفعونها للحرب، وتسميته لشخصيات لعبت أدواراً بارزة في “تحريض” إدارة الرئيس بوش على غزو واحتلال العراق، منها: ديفيد فروم، كندي المولد وكاتب خطابات الرئيس بوش الإبن؛ ماكس بوت، روسي المولد ويشغل منصباً رفيعاً في مجلس العلاقات الخارجية المرموق؛ ويليام كريستول، مؤسس ومحرر أسبوعية ويكلي ستاندرد المحافظة؛ بريت ستيفنز المعلق السابق في يومية وول ستريت جورنال وعضو صفحة الرأي في يومية نيويورك تايمز.
الفريق الرباعي المتشدد أعلاه أخفق في كافة المحاور التي تسلمها في عهد بوش الأبن، بل “كل فرد من أفراده يضمر كراهية شديدة للإتفاق النووي مع إيران، فضلاً عن سعيهم الحثيث للتحريض بشن هجوم عسكري على إيران.”
جيرالدي، ضابط الإستخبارات السابق، لم يشأ حصر طاقم غلاة المتشددين بالاسماء الأربعة أعلاه، مضيفاً إليها عينة من أبرز أقطاب المحافظين الجدد، غالبيتهم من “اليهود،” والمؤسسات الفكرية والبحثية المرتبطة بذاك التيار؛ وخص بالذكر ديفيد ويرمسر، سويسري المولد، لخطورة نفوذه داخل المؤسسة الأميركية، إذ خدم كضابط استخبارات في سلاح البحرية الأميركية، وبعد خروجه عمل مستشاراً لشؤون الشرق الأوسط لدى نائب الرئيس الأسبق، ديك تشيني.
واستطرد جيرالدي بالقول أنه على قناعة صارمة بأن حملات التحريض والتشدد ضد إيران مصدرها “اسرائيل ويهود أميركا .. بل إن معظم مشاعر الغضب في الكونغرس من إيران تأتي من تحريض المصدر عينه.”
المذكرة الأوروبية سالفة الذكر حذرت الولايات المتحدة بشدة من أن “القيام بعمل أحادي الجانب من شأنه تعريض الإتفاق للخطر وسيكون خطأً جسيماً.” بالمقابل، حثت الأطراف الدولية الأخرى الموقعة على الإتفاق بذل ما تستطيع من جهود “لحماية الإتفاق في حال قررت الولايات المتحدة التراجع عنه ومناشدتها بالسبل العلنية والخاصة بأنها تغامر في الإضرار بمكانتها بين الدول إن لجأت لإعادة فرض عقوبات على إيران.”
مغامرة أم تلاعب ترامب
معارضة ترامب للإتفاق النووي، من حيث المبدأ، قلّص مساحة المناورة لديه بوضعه نفسه أمام خيارين: تجديد الموافقة بالاتفاق وما ينطوي عليه من تعزيز لدور مؤسسة الرئاسة في إدارة الشؤون الخارجية؛ او السير بعكس الركب مما يتطلب منه التنازل عن صلاحيات الرئاسة بإحالة المسألة وقراراتها الى الكونغرس، لاتخاذ قراره في مدة زمنية أقصاها 60 يوماً.
مهدت يومية واشنطن بوست لخيار المصادقة بالقول إن الإتفاق النووي مع ايران، المبرم عام 2015، شديد الشبه بالإتفاق الذي تم التفاوض عليه مع كوريا الشمالية عام 1994 فيما يخص “ولادته وتكوينه، ومبادئه والمعارضة السياسية التي واجهها” آنذاك.
وذكّرت الرئيس ترامب “بالأخطاء التي ارتكبتها إدارة الرئيس جورج بوش الإبن .. ووقوفها متفرجة أمام تجربة بيونغ يانغ النووية التي أجرتها عام 2006؛” وحثته على عدم تكرار التجربة التي ستفضي إلى عودة إيران بقوة ونشاط لإنتاج سلاح نووي دون قيود؛ بينما وافق البلدان على دخول المفتشين الدوليين لمنشآتهما النووية.
واستطردت بأن برنامجي البلدين مختلفين في العناصر والمكونات، إذ أن البرنامج الكوري الشمالي “يستند الى عنصر البلوتونيوم، بينما محور البرنامج الإيراني هو في تخصيب اليورانيوم باستخدام أجهزة الطرد المركزي.”
يتعين على الرئيس ترامب الإدراك أن بؤرة المسألة الشائكة في الملف النووي ليست التحقق من التزام الطرف الآخر، كما يشاع، بل وقوف قادة حزبه الجمهوري في الكونغرس “بقوة ضد تنفيذ الولايات المتحدة التزاماتها المنصوص عليها مع كوريا الشمالية” وإفشال الإتفاق المبرم معها عام 1994 “طمعاً في نزعة الثأر بالابقاء على عزلة بيونغ يانغ دولياً،” وفق تفسير الصحيفة.
عودة سريعة الى سجل إدارة الرئيس بوش الإبن تعيد للأذهان إعترافها الصريح والواضح في سعيها لإفشال الإتفاق، عن سبق إصرار وترصد. نائب وزير الخارجية آنذاك، جون بولتون، ممثلاً للفريق المعارض للإتفاق أوضح في مذكراته المنشورة بأنه وأقرانه كانوا يتطلعون لاستغلال الفرصة المناسبة للإطاحة به “وتمزيق إطار الإتفاق إرباً.”
تجدر الإشارة الى أن الرئيس ترامب “صادق مرتين” على التزام إيران بنصوص الإتفاق، وها هو يتحين الفرصة للإنقضاض عليه، مكرراً “خطيئة” بولتون السابقة، بخلاف تقارير الوكالة الدولية للطاقة النووية التي لا تنسجم مع ادعاءات الإدارة ومؤيديها.
القائد الأعلى الأسبق لحلف الناتو، ويسلي كلارك، وما يمثله من امتدادات ونفوذ كبير داخل المؤسسة العسكرية والاستخباراتية حذر الرئيس ترامب بشدة من قرع طبول الحرب مع إيران أو كوريا الشمالية، أو كلتيهما معاً، في مقابلة متلفزة لشبكة أم أس إن بي سي، 22 أيلول الجاري. وذكّره بأن سلفه جورج بوش الإبن سار على ذات المنهج التدميري الراهن، في حالة العراق، وبدء “بإطلاقه الأوصاف الرديئة، للحط من قدر وإذلال الخصم .. (كما أن) الزخم الإعلامي الراهن يؤسس لشن حرب غير ضرورية. إن أحداً ما يتشوق لإشعال فتيل الحرب.”
على الرغم من سلسلة تحذيرات تُنذر الإدارة بعدم الوقوع في الهاوية، فإنها تقف عاجزة عن تحقيق إجماع داخلي بشأن اتخاذ قرار شن الحرب على أي من البلدين، خاصة لما نشر قبل أيام معدودة من “خطأ المراهنة” على ما تحتويه ترسانتها من نظم دفاعية ضد الصواريخ إذ باتت “عاجزة عن التصدي وإسقاط الصواريخ الباليستية،” كما أقر بذلك أحد كبار الخبراء في الأسلحة النووية.
أما فيما يخص إيران فالمسألة تتخذ أبعاداً شديدة التعقيد للولايات المتحدة لخشيتها من تعرض ربيبتها “إسرائيل” لوابل من الصواريخ التي ليس بوسع بطاريات الباتريوت الأميركية ومشتقاتها التصدي لها، ناهيك عن فعالية إسقاطها قبل بلوغها أهدافها. أما التداعيات الجيوسياسية في الإقليم فهي مرشحة لتعريض الوجود الأميركي برمته للخطر؛ وتبقى مغامرة غير محسوبة العواقب رغم حماسة “المحافظين الجدد .. بلادنا ليست بحاجة لشن حرب على إيران لأن إسرائيل ترغب بذلك والفرح الغامر ليهود أميركا الأقوياء تلبية ذلك،” كما خلص الضابط السابق جيرالدي.