في صراعات غرب آسيا:الولايات المتحدة اللاعب الخاسر الأكبر: د. عصام نعمان
بات غرب آسيا أكبر ملاعب الصراع بين كبار لاعبي العالم وصغاره، وبين آخرين ارتقوا بسرعة لافتة إلى مراتب إقليمية عالية. ملاعب الصراع منفصلة ومتصلة في آن. تمتدّ من الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط الى الشواطئ الغربية لبحر قزوين، ومن الشواطئ الجنوبية للبحر الأسود الى الشواطئ الشمالية لبحر العرب .
ملاعب الصراع في غرب آسيا مكتظة بلاعبين كثر إقليميين: عرب، وصهاينة، وترك، وكرد، وفرس. إلى هؤلاء، ثمة لاعبان كبيران دوليان: الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية، يشاركهما أحياناً لاعب بريطاني وآخر فرنسي، ويراقب «المباريات» من بعيد لاعب دولي مقتدر: الصين.
لكلٍّ من هؤلاء اللاعبين «لعبته»، بمعنى قضيته الخاصة، لكنه يشارك الآخرين في ألعابهم وألاعيبهم. أولى القضايا هي قضية العرب المزمنة بما هي صراع من اجل الاستقلال والحرية والوحدة والنهضة. غير أنه، بتدخلاتِ كبار لاعبي أوروبا وأميركا، استطاع الصهاينة مشاركة سائر اللاعبين المباريات المحتدمة منذ النصف الأول للقرن العشرين.
في هذه «اللعبة» تحديداً، ازداد مع احتدام الصراع عدد اللاعبين الإقليميين من ترك وفرس. كما حاول لاعبون كرد التسلّل الى الملعبين العراقي والسوري لانتزاع أدوار لهم بغية تنظيم لعبتهم الخاصة.
أقوى اللاعبين وأخطرهم وأكثرهم خرقاً لقواعد الصراع هو اللاعب الأميركي. ذلك أنه تمكّن بعد الحرب العالمية الثانية من إزاحة اللاعبيْن البريطاني والفرنسي وانتزاع الكثير من أدوارهما. اللافت أنه كان دائماً داعماً ومناصراً للاعب الصهيوني في كلّ المباريات التي جرت على ملاعب الصراع. كما أنه استفاد من خروج اللاعب الروسي بضعَ سنوات بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لكن، بعودة اللاعب الروسي بكامل لياقته البدنية إلى ملاعب الصراع، انحسر دور اللاعب الأميركي بشكل ملحوظ وتبدّى ذلك في نتائج المباريات التي جرت، وما زالت تجري، من العام 2011 فصاعداً.
إذا ما ترجمنا هذه اللوحة الرمزية إلى وقائع سياسية وميدانية لخرجنا بصورة واقعية للوضع القائم في غرب آسيا على النحو الآتي:
أولى قضايا الصراع حاليّاً تلك المحتدمة بين الولايات المتحدة وإيران. ذلك أنّ واشنطن تستشعر، بقلق، تنامي قوة إيران، عسكرياً وسياسياً، ما حملها تحت ضغط «إسرائيل» من جهة، والكونغرس من جهة أخرى، على التهويل بإلغاء الاتفاق النووي المعقود بين إيران ودول كبرى ست ومصادَق عليه في مجلس الأمن، ظنّاً منها أنّ ذلك قد يُقنع إيران بالموافقة على تعديله. غير أنّ طهران رفضت التعديل وهدّدت بردٍّ حازم على واشنطن إذا ما قامت بإلغاء الاتفاق. الواقع أنّ جميع الدول الموقعة على الاتفاق ومعظم أطراف المجتمع الدولي تؤيده ما قد يؤدّي الى أحد احتمالين: إبقاؤه على ما هو عليه، أو قيام الكونغرس الأميركي بتشديد العقوبات على إيران إرضاءً لـ «إسرائيل». كلٌّ من هذين الاحتمالين يُضعف الولايات المتحدة ويصنّفها الخاسر الأكبر في الصراع.
ثانيةُ قضايا الصراع الحرب في سورية وعليها. ذلك أنّ الولايات المتحدة، بالتواطؤ مع «إسرائيل» وتركيا وبعض دول الخليج، قامت بدعم تنظيمات إرهابية ناشطة في العراق وسورية بالمال والسلاح والرجال ما مكّنها من السيطرة، في بعض المراحل، على ثلثي مساحة العراق وأكثر من نصف مساحة سورية. غير أنّ بقاء الجيش السوري متماسكاً واندفاع حزب الله إلى مساندته، كما روسيا في مرحلة لاحقة، كسر هجمة الإرهابيين وأخرج فصائلهم من معظم المناطق التي وقعت تحت سيطرتهم. في العراق، أعيد تنظيم الجيش وجرى دعمه بفصائل «الحشد الشعبي» ما أدّى إلى تحرير الموصل ومناطق أخرى واسعة كانت وقعت تحت سيطرة تنظيمات الإرهاب. هذه الهزيمة المدوّية للإرهاب تشكّل هزيمة للمشروع الأميركي – الصهيوني الهادف إلى تفكيك الدول العربية المحيطة بالكيان الصهيوني إلى جمهوريات موز قائمة على أساس قبلي أو مذهبي أو أثني. كما هي هزيمة لتركيا التي حاولت، في ظلّ أردوغان، إحياء هيمنة عثمانية ذاوية على المشرق العربي تحت راية الإخوان المسلمين الذين يوالون إقليمياً حزب العدالة والتنمية الأردوغاني.
ثالثةُ قضايا الصراع محاولة بعض قيادات الكرد استغلال انشغال دول الإقليم بحربها على الإرهاب بغية إحياء مطلب الكرد التاريخي بإقامة دولة مستقلة تجمع شعوبهم في تركيا والعراق وسورية وإيران. اللافت أنّ الولايات المتحدة، بالتواطؤ مع «إسرائيل»، دعمت مباشرةً ومداورةً الكرد الانفصاليين في إطار مشروعها الرامي إلى تفكيك محيطها العربي إلى جمهوريات موزٍ هزيلة ومتناحرة. غير أنّ نهوض حكومتي سورية والعراق، بالتعاون مع قوى المقاومة العربية المدعومة من إيران، إلى مواجهة الإرهاب التكفيري عطّل جهود الكرد الإنفصاليين أو كاد وحمل تركيا على وقف دعمها لـ «داعش» والتنسيق بجديّة أكثر مع كلّ من روسيا وإيران حليفتي سورية في مواجهة الإرهاب. مع ذلك فإنّ قضية الكرد الانفصاليين لم تنتهِ بعد لأنّ الولايات المتحدة و»إسرائيل» تثابران على دعم الكرد الانفصاليين في سورية والعراق وحتى في تركيا وإيران بغية تحويل غرب آسيا، على المدى الطويل، إلى موزاييك حيّ من الكيانات القبلية والمذهبية والإثنية المتمايزة والمتناحرة.
رابعةُ القضايا هي قضية فلسطين التاريخية التي فقدت مركزيتها في حياة العرب والمسلمين جرّاء صراعات الأطراف الفلسطينية من جهة، ودعم الولايات المتحدة اللامتناهي لـ «إسرائيل» وللقوى المحلية العربية المتعاونة معها من جهة أخرى. في هذا السياق، تحاول إدارة ترامب تدوير زوايا التباين بين «إسرائيل» ومنظمة التحرير برئاسة محمود عباس على نحوٍ يؤدّي إلى «منح» الفلسطينيين «دولة» أشبه ما تكون بكانتون بلدي بحكم ذاتي منزوع السلاح ومرتبط بالاقتصاد «الإسرائيلي»، على أن يتمّ ذلك كله في إطار ترتيبٍ أوسع يقضي بمصالحة الدول العربية المحافظة مع «إسرائيل» وتطبيع العلاقات بينها وبين سائر الدول العربية الرافضة توقيع معاهدة سلام معها. لا أفق لمبادرة إدارة ترامب هذه، خصوصاً بعدما تمكّنت سورية والعراق من تجاوز خطر الإرهاب الداعشي وبالتالي مباشرة إرهاصٍ بنهوض عروبي جديد مقاوم للكيان الصهيوني وحلفائه.
خامسةُ القضايا هي قضية التخلّف العربي الذي أنجب، من بين مواليد قميئة كثيرة، الإسلام السلفي المتطرف الذي أنجب بدوره الإرهاب التكفيري المتوحّش. غني عن البيان انّ التخلف قضية مزمنة متعدّدة الجوانب ولا جدوى من مواجهتها إلا بحركة عروبية نهضوية، ثقافية واجتماعية وسياسية، تقودها طلائع مقاومة مدنية وميدانية بنَفَس طويل على مستوى القارة العربية برمّتها.
هذا على المدى الطويل. أما على المدى القصير والمتوسط فلا بدّ من اضطلاع قوى المقاومة العربية الحيّة في كلٍّ من سورية والعراق بمهمة إطلاق حركة سياسية نهضوية لبناء دولة «سوراقيا» المدنية الديمقراطية الاتحادية بغية النهوض بمهمتين تاريخيتين: مواجهة الكيان الصهيوني العنصري النووي، ومقاومة الإرهاب التكفيري المتحالف مع اميركا و»إسرائيل».
المقاومة هي المبتدأ والخبر.
(البناء)