بقلم ناصر قنديل

ترامب يفضح تراجع مكانة أميركا وعجزها

ناصر قنديل

كشف الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة حجم التراجع في المكانة الأميركية في السياسة الدولية، فالخطاب الذي تركّز على التغني الفارغ بأمجاد وعظمة أميركا، يفضحه خطاب ترامب نفسه في حملته الانتخابية وما تضمّنه من إشارات بالغة لوقوف أميركا على شفا كارثة في الثقافة والتعليم والحضارة والبطالة والخدمات، كما تركيز ترامب على خطر ما وصفه بالإرهاب الإسلامي وجعله أولوية دولية، يفضحه كلامه في حملته الانتخابية عن اتهامه الإدارات التي سبقته في البيت الأبيض بالمسؤولية عن صناعة هذا الإرهاب وتوريده للعالم كسلعة سياسية، وبقي من الخطاب تهديدان فارغان، واحد مليء بالصخب ضد كوريا الشمالية بتدميرها كلياً. وهو كلام لا يليق برئيس دولة تتشدّق بالحديث عن حقوق الإنسان وتهدّد بمحو شعب كامل عن الخريطة، بينما تدّعي السعي لتخليص هذا الشعب مما تصفه بتسلط نظامه عليه. ومن جهة مقابلة هو تهديد مشروط بمبادرة كوريا الشمالية بتهديد أميركا، فيفقد قيمته كتهديد بالمعنى السياسي، وبالمقابل كلامه عن إيران واتهامها مع حزب الله بزعزعة استقرار المنطقة، والتباكي على «خطيئة» توقيع التفاهم على ملفها النووي، من دون التجرؤ على لفظ مفردة الاستعداد للانسحاب منه، وفوقهما تهديدات لكوبا وفنزويلا، بالمقاطعة من دون خريطة طريق لتجنب النتائج نفسها التي ترتبت على المقاطعة طوال عقود اعتمدتها الإدارات السابقة، ليصير الخطاب بثاً للكراهية من فاقد للحيلة وعاجز عن التحرك، يطلق الصرخات الحاقدة ولا يملك القدرة ولا الرؤيا لكيفية تحويلها خطوات عملية .

خطاب الكراهية الذي أطلقه ترامب، كما هو خطاب التفاخر، خلا من أي مبادرة ذات قيمة للتوقف أمام المشكلات الحقيقية التي تواجهها البشرية. فهو تجاهل قضايا أزمة المناخ التي انسحبت إدارته من الاتفاقية الوحيدة التي نجحت الدول الصناعية بتوقيعها، والتهديد الذي يمثله تفاقم هذه القضية على مستقبل البشرية والحياة فوق الكوكب، كما تجاهل قضية خفض السلاح النووي التي تعهّدها رؤساء سابقون للدول الكبرى وأميركا في مقدّمتها، والتي تستهلك الموارد المالية والعلمية لتلك الدول، وتتسبّب بسباق جنون تسلّح يهدد برفع منسوب التوتر ومخاطر الحروب المدمّرة بلا طائل، ليسلك طريق التباهي بزيادة الإنفاق على التسلّح، وتجاهل قضايا لا تقلّ أهمية مثل تصاعد موجات العنصرية التي تجتاح العالم من أميركا إلى أوروبا والشرق الأقصى والتي تنتظر مبادرات فعالة لثقافة العيش الواحد بين الشعوب تقودها الأمم المتحدة، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، واقتصادياً، لتشجيع التبادل والتشارك والتفاعل بين المكوّنات المختلفة دينياً وثقافياً واجتماعياً وعرقياً.

جسّد ترامب عجز حكومته عن لعب دور قيادي على مستوى العالم في حلّ الأزمات الكبرى والمبادرة لقيادة مشاريع التصدّي لتفاقمها، وأظهر تراجع مكانة أميركا القيادية في العالم، وعلى صعيد أشدّ خطورة وراهنية تنصل ترامب من التطرق لكل النزاعات الإقليمية المتفجّرة التي ينتظر العالم فيها، مبادرات من واشنطن، فلا قضية الانفصال الكردي المتفجّرة نالت كلمة من خطابه، ولا حرب اليمن المدمرة واللاإنسانية، ولا حرب ليبيا وتفشي الإرهاب فيها ومراوحة المصالحة الداخلية بين أطرافها مكانها، ولا مستقبل مساعي الحل السياسي في سورية ومقاربة قضايا تغيير الأنظمة بالقوة تحت شارات الديمقراطية وحقوق الإنسان وما أنتجته من نمو في الإرهاب وزيادة في موجات النازحين، وتهديد الاستقرار بجعل الفوضى بديلاً وحيداً متاحاً

في مناطق شديدة الحساسية والخطورة، وظهرت أميركا دولة هامشية كبرى، تملك خطاباً متعجرفاً ولغة صاخبة لكنها فارغة اليدين من المبادرات.

الجديد الخطير في خطاب ترامب، الذي يعني شعوب منطقتنا، أنه أول رئيس أميركي يخلو خطابه أمام الأمم المتحدة من أي إشارة للقضية الفلسطينية ومساعي إحلال السلام في المنطقة. وهذا برسم الدول والقيادات التي تقدّم واشنطن صديقاً للعرب، أن تقرأ عبر الابتسامة العريضة لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وتصفيقه الحار لكلمة ترامب، عند ذكر ترامب لحزب الله كخطر على الاستقرار في المنطقة، الإيحاء الذي أراد نتنياهو إيصاله لنا عن يده الطولى في هذا الخطاب.

لم يكن الاهتمام الأميركي اللفظي بالقضية الفلسطينية يقدّم خطوة نحو نيل الفلسطينيين بعضاً من الحقوق، أو نيل البعض من الحماية، لكنّه كان علامة على حجم تمسّك بعض الحكومات العربية بالقضية الفلسطينية، أو إحراجهم من تجاهلها، وهو ما لم يعُد قائماً. وقد كشف خطاب ترامب هذه الحقيقة عارية بمثل ما كشف التنصّل من أي مسؤولية في حلّ القضايا التي عجز المجتمع الدولي عن تنفيذ قراراته لحلّها، أن أميركا قد فقدت صفة الدولة الفاعلة في صناعة الحلول للأزمات، بعدما حسم عجز أميركا عن خوض الحروب، مهما علا صراخ رئيسها وإنفاقه العسكري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى