مقالات مختارة

الحلم الذي لم يتحقق: «إمارة الشمال» تلاقي «إمارة القلمون»: ميسم رزق

 

جِهاديّو لبنان لم يكونوا قلّة. وقد شكّل الشمال وعاصِمته اختباراً لولادة هؤلاء ومجموعاتهم التي كانت تستعدّ لإعلان الإمارة الإسلامية وربطها بمنطقة القلمون السورية. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، وُضع مخطط كبير كانت تنوي هذه المجموعات تنفيذه، بحسب إفادات عدد كبير من الموقوفين، اعترفوا بالعمليات التي كانت قاب قوسين من التنفيذ قبل كشف الخلايا. وقد حصلت «الأخبار» على نسخة من تقرير قاضي التحقيق العسكري الأول مع هؤلاء، وأبرزهم أحمد سليم ميقاتي الملقب بـ«أبو الهدى». وأهم ما جاء في هذه الاعترافات أن منطقة الضنية اختيرت لتكون الملاذ الآمن للجهاديين بانتظار الساعة الصفر، حيث سيبدأ منها المخطّط بالتزامن مع عمليات أمنية وعسكرية في منطقة الشمال. كذلك كان لافتاً في إفادات الموقوفين الإرهابيين العمل الذي كان يجري لاختراق الجيش وحصول انشقاقات .

يوماً بعد يوم، يتبيّن، وبالاعترافات الموثقة، ما كانت تُخطّط له الجماعات الإرهابية، لخطف البلد وجعله أتوناً للصراعات المذهبية. على هيئة سوريا (قبل هزيمة داعش والنصرة) كان يُراد للبنان أن يكون.

وتمّ اختيار منطقة الشمال، وتحديداً مدينة طرابلس، لتكون أول المخطوفين من حضن الدولة، ومنطلقاً لإعلان الإمارة الإسلامية نحو مدن أخرى. ما شهدته طرابلس في الأعوام الأخيرة كان المرحلة الأشد خطورة، حيث تمدّدت إليها أصابع المخطط لاستهداف الجيش اللبناني. وقد كشفت معاركها معطيات أمنية تتحدث عن تحرك الجماعات الإرهابية التي تدور في فلك «القاعدة» في لبنان باتجاه الأراضي السورية من أجل تدريب المقاتلين المتشددين. وفي أولى سنوات الحرب السورية، كان لبنان يعتبر من وجهة نظر الجماعات الأصولية أرض نصرة، قبل أن يتحوّل إلى أرض جهاد لمواجهة الجيش اللبناني وحزب الله، بالإضافة الى تنفيذ عمليات إرهابية.

وقد أثبتت التوقيفات الكثيرة التي حصلت في صفوف الإرهابيين أن ما كان يُعَدّ في طرابلس وعرسال لم يكن سوى محاولة لبلوغ حلم الإمارة عبر ربط الشمال بالقلمون السورية، وفق اعترافات عدد من الموقوفين، أبرزهم ميقاتي الذي عمِل منسّقاً لإرسال شبان الى «داعش» في جرود القلمون السورية، والذي اعترف بأنه كان يريد احتلال بلدات بخعون وبقاع صفرين وعاصون (البلدة التي أوقف فيها) كونها غير ممسوكة أمنياً، وبأن خطته كانت تقضي بوصل طرابلس بالضنية عبر بحنين التي تربطها بالضنية طريق عيون السمك، تمهيداً لربط هذا المثلث بمنطقة عرسال ومنطقة القلمون السورية، ووضع قدم لهذه الإمارة عند شاطىء البحر، وهذا المخطط كان يفترض البدء بتنفيذه بعد قرابة شهر من تاريخ توقيف ميقاتي في 23 تشرين الأول عام 2014. بحسب محاضر قاضي التحقيق العسكري الأول، تبيّن نتيجة اعترافات الموقوفين أن المدّعى عليه ميقاتي، الموقوف سابقاً في قضايا أمنية مهمة من أحداث الضنية إلى موضوع التخطيط لضرب سفارات وتفجير سلسلة مطاعم أجنبية، قد عمل على إنشاء مجموعة شاركت في أحداث باب التبانة وجبل ومحسن. وهو مرتبط مع قياديين إرهابيين في الداخل السوري ويعمل أمنياً لصالحهم، ومنهم القيادي أبو أيوب العراقي (أحد أبرز عناصر التنظيم) الذي قام بتمويله مادياً من أجل إنشاء مجموعات مسلحّة وإيوائها في مناطق آمنة لاحتلالها لاحقاً. بحسب اعترافاته، استأجر ميقاتي (الملقب بأبو الهدى)، منازل في منطقة الضنية لتكون نقطة الانطلاق للدولة الإسلامية وإعلان المبايعة فيها، ليصار من خلالها إلى ربط القلمون السورية بالساحل اللبناني.

ولتحقيق هذه الغاية، جمع ميقاتي أكبر عدد من المطلوبين، وحرّض بعض العسكريين اللبنانيين ممّن يحملون فكراً متشدداً على الانشقاق عن الجيش. وكانت لميقاتي، بحسب اعترافاته، علاقة وثيقة بالإرهابيَّين أسامة منصور (قُتل عام 2015) وشادي المولوي (المتواري في مخيّم عين الحلوة). وقد قام بإرسال ابنه عمر وابن موقوف آخر هو بلال ميقاتي، المتهمين بقضية أحداث عرسال وخطف عسكريين وذبحهم، إلى سوريا للالتحاق بداعش وتأمين استمرارية التواصل مع العراقي وبعض القياديين من التنظيم نفسه، في نفس الوقت الذي كان فيه «أبو الهدى» على مقربة وشيكة من تنفيذ مخططه باحتلال الضنية لإعلانها منطقة آمنة ورفع رايات داعش فيها ومبايعة أمير الدولة الإسلامية «أبو بكر البغدادي». كان ذلك المرحلة الأولى من المخطط الأكبر الرامي الى ربط منطقة القلمون السورية بالساحل اللبناني، مع ما سيرافق هذه الخطوة من أعمال أمنية في مدينة طرابلس ومحيطها، وكل هذا بعلم المولوي ومنصور، قبل أن يتم القبض عليه مع مجموعة تابعة لهم، من بينهم المجنّد المنشق عن الجيش عبد القادر الأكومي. من ضمن المخطط، كان مقرراً، بالتزامن، بدء الأعمال القتالية في طرابلس للمؤازرة، يتولاها المولوي ومنصور عبر تحريك المجموعات المسلحة التابعة لهما، ويلاقيهم تحرّك آخر من القلمون، وكذلك العمل على تصنيع العبوات النارية والحشوات الدافعة لصنع الصواريخ، بحيث كانوا ينوون زرعها على الطرقات لمنع وصول عناصر حزب الله الى المنطقة وإعاقة تقدمهم. وقد طلب ميقاتي لهذه الغاية من أبو أيوب العراقي إرسال حوالات مالية من الرقة له شخصياً ليعمل على تحويلها الى الجماعات الإرهابية في الجرود. هذا السيناريو تكرر على لسان أكثر من موقوف (حوالى 20 متورّطاً). والجدير بالذكر أن عدداً منهم أتى على ذكر الشيخ خالد حبلص؛ فأحد الموقوفين يدعى إبراهيم خالد بركات قال إن علاقته بالتنظيم بدأت مع شخص يدعى محمد الأيوبي، ملقّب بأبو أيوب، وأن هذا الأخير كان قد أخبره أنه سوف يعمل لدى داعش في لبنان كأمير عسكري، وأنه تسلّم من التنظيم مبلغ 30 ألف دولار لإعداد خلية وتجهيزها عسكرياً. وبعد توقيف الأيوبي، جاء إليه شخص (أوقف لاحقاً) يدعى طارق الخياط برفقة حبلص، فأوضح لهم مشروعه. وبعد يوم واحد عاد اليه الخياط ومعه أحمد ميقاتي وأخبروه عن المخطط الشامل، الذي سيشارك فيه حبلص عبر فتحه معركة في المنية. هذه المشاركة جاءت مطابقة في إفادة شخص آخر يدعى فايز فواز عثمان الذي قال إن أبو الهدى قد أخبره أن لديه مخازن أسلحة في طرابلس وسيقوم بنقلها مع مجموعات جاهزة الى مناطق عدة. كما طلب منه أبو الهدى التواصل مع الشيخ حبلص، وحصل ذلك عبر وسيط، لكنه لم يعرف حقيقة دوره في المخطط ككل.

كذلك، فإن البارز في إفادات الموقوفين ما أدلي به عن محاولات الخلايا الإرهابية العمل على اختراق الجيش، لحصول انشقاقات. وعلى ما يبدو أن بعضها نجح. أول انشقاق عن الجيش اللبناني قام به المجند عاطف سعد الدين. والجندي الثاني الذي أعلن انشقاقه وانضم إلى جبهة النصرة هو المجند محمد عنتر من منطقة الزاهرية في مدينة طرابلس. وانضمّ اليها ثلاثة آخرين هم: عبدالله شحادة، عبد القادر أكومي وعبد المنعم خالد. بحسب المحاضر التي حصلت عليها «الأخبار»، فقد صرّح الأخير بعد توقيفه بأنه «خلال خدمته في فوج التدخل الثالث، حصلت معه مشاكل عدة، وتمّ استدعاؤه إلى أمانة الأركان، وتعرضّ للإهانة، فقرر الفرار من الجيش، وتوجّه إلى مسجد ابن مسعود في التبانة حيث يوجد أشخاص ينتمون الى «داعش»، وأخبرهم بأنه منشق وينوي الانضمام إليهم. وقد اتفق مع أحدهم على أن ينفّذ عملية أمنية على مركز عسكري تابع للجيش. واقتضت الخطة أن تتمّ مهاجمة مركز شربيلا وضرب ملالة وإطلاق النار على العناصر. أما في ما يتعلّق بالمنشق محمد عنتر الذي كان يخدم في كتيبة الحراسة والمدافعة عن مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، فقد أتى على ذكره الموقوف عثمان الذي قال إن «عنتر هو شقيق طليقته، وأنه هو من أقنعه بالانشقاق، فأصبح مقاتلاً في طرابلس». وبحسب عثمان، كان «عنتر أول من أخبره عن ذبح العسكري علي السيّد على يد بلال ميقاتي، وأخبره عن تردّده بشكل سرّي إلى داخل عرسال لتأمين حاجياته».

وتم إنشاء عدة مجموعات في الشمال، يتراوح عديد كل منها بين 10 و20 عنصراً. وكانت ستنتقل الى الضنية لبدء العمل على أرض الواقع ومباشرة القتال، والسيطرة على مراكز الجيش من خلال الاشتباك معها، أو من خلال أسر عناصر عسكريين للتفاوض عليهم أو إقناعهم بالانشقاق عن المؤسسة وإقامتهم في الملاذ الآمن في الضنية تمهيداً لإعلان الإمارة.

(الاخبار)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى