عائدون إلى دير الزور: إيلي حنا
في أحد أطول الحصارات في التاريخ الحديث، ينتظر عشرات الآلاف من أهالي دير الزور طلائع الجيش السوري المتقدمة لفكّ الحصار عن المدينة. شهور مريرة من الموت والجوع والمرض قاربت على الانتهاء، فـ«داعش» غُلّت يداه وترياق دمشق لامس الدير… لتعود «عروس الفرات »
ابتعد الرجل عن «بسطته» الصغيرة في حيّ الجورة. يريد مشاركة أبناء الدير المتجمهرين فرحتهم في اقتراب فكّ الحصار عن المدينة. أصوات فرح وطلقات رصاص كانت كافية ليل أمس لتحوّل كابوس الديْريّين إلى حلم قيد التحقق. شحّ المواد الغذائية والطبية وانقطاع الكهرباء وغيرها من «بنود المأساة» تبخّرت لوهلة في الساعات الأخيرة.
الجميع في انتظار مُخلّص يبعد مئات الأمتار، وخلفه آمال بقوافل مساعدات ستصل المدينة لأول مرة منذ زمن توقف الأهالي عن تعداده. لحوالى 3 سنوات كانت السماء مُعينتهم وقاتلتهم في آن واحد: قذائف وصواريخ «داعش» المنهمرة على رؤوسهم مقابل السلل الغذائية والطبية المرمية بالمظلات جوّاً. فك الحصار المنتظر خلال ساعات لا يعتبر إنجاز اللحظة، بل هو نتيجة صمود أسطوري منذ قرابة عامين وثمانية أشهر، وإرادة غلبت «داعش» و«التحالف الأميركي» الذي طالما حاول تمهيد الطريق للتنظيم الإرهابي للسيطرة على المدينة، وإنهاء وجود الجيش في عاصمة الشرق السوري. هذا الإنجاز يحقّق إعادة حضور القوات السورية إلى شرق البلاد، ويُعدّ خطوة مهمّة نحو ربط كامل المحافظات الشرقية مع بقية المحافظات، وبداية لاستعادة الشريط الحدودي مع العراق، المقابل لدير الزور.
المحنة الدموية لم تقتصر على «عروس الفرات»، بل امتدت إلى أريافها التي تناوبت عليها سطوة «الجيش الحر» ثم «جبهة النصرة»، وأخيراً «داعش».
ففي شهر حزيران من عام 2012، كان أول ظهور مسلح في المدينة، أنهاه حينها الجيش السوري، قبل أن يعاود الظهور في الأرياف ويصل إلى المدينة مجدداً نهاية عام 2012 بعد ظهور «جبهة النصرة»، قبل أن يبتلع «داعش» المولود من رحم «القاعدة» كامل أرياف دير الزور في شهرَي شباط وآذار من عام 2014، ويقطع الطريق بينها وبين دمشق إثر السيطرة على قرية الشولا، في تشرين الثاني من عام 2014.
بداية الحصار المُطبق بدأت في منتصف شهر كانون الثاني عام 2015، عندما قطع التنظيم الطرقات البرية الواصلة إلى المحافظة، ومنع دخول المواد الغذائية وقطع الكهرباء والاتصالات والمحروقات عنها، وشُدِّد الحصار في شهر آب من العام ذاته، عندما تقدّم التنظيم في المريعية، وبات من الصعب هبوط طائرات الشحن العسكرية في المدينة.
ورغم تشديد الحصار وتضييقه، تمسّك الجيش السوري بقواعده الموجودة في المدينة، لإدراكه أن خسارة الدير ستعتبر خسارة لأغلب الشرق السوري، الذي توغّل فيه الأميركي وسعى جاهداً لإضعاف الجيش والدولة السورية، فدمّرت طائرات «التحالف» مستودعات الوقود والذخيرة في بلدة عياش غرب الدير في نهاية عام 2015. وفي أيلول من عام 2016، جدّد قصفه على مواقع الجيش في جبل الثردة، ما أدى إلى استشهاد 82 من قوات النخبة في أكثر المواقع الدفاعية أهميةً، وخسر الجيش عياش والثردة إثر الغارات.
تنظيم «داعش»، أيضاً، لم يُعدم وسيلة لإخراج الجيش من المدينة، مطلقاً آلاف قذائف الهاون والصواريخ، وخسر المئات من انتحارييه ومقاتليه، وجنّد أقوى كتائبه لتحقيق هذا الهدف، إلا أن المدينة ظلّت عصيّة، ليحافظ الجيش على قرابة نصف مساحتها، بالإضافة إلى قواعده في المطار العسكري، واللواء 137، والفرقة 17.
اليوم تغيّرت المعادلة، وبات الجيش هو المبادر لكسر الحصار وعزْل «داعش» تباعاً في أرياف الدير، حيث وصلت القوات المتقدمة أمس إلى أطراف «اللواء 137»، لتقف على بعد نحو كيلومترين عنه في منطقة المجبل، في انتظار إتمام قوات الهندسة نزع الألغام التي تطوّق «اللواء». ومع انسحاب «داعش» من كامل المنطقة المحصورة بين نيران الجيش من الطرفين، أصبح وصل شريان المدينة أمراً واقعاً ينتظر تثبيت النقاط العسكرية لتأمين ممر آمن نحو المدينة.
ولم تقتصر تحركات الجيش على تأمين وصول سريع على جهة واحدة فقط، إذ صعّد عملياته على طول الطريق الرئيسي الصحراوي نحو دير الزور، مسيطراً على بلدتي كباجب والشولة، ليعود ويركّز جهده الميداني انطلاقاً من مواقعه الأخيرة نحو مدخل حقل التيم شرقي طريق تدمر ــ دير الزور، بالتوازي مع ضغط كثيف على تحركات «داعش» على نقاط الطريق شمالاً، الممتدة نحو دوار البانوراما الذي يعدّ مدخل المدينة الرئيس من الجنوب. ويفرض التقدم نحو حقل التيم، المحاذي لجبل الثردة من الجهة الجنوبية، واقعاً جديداً في محيط المدينة، إذ إنه في حال استكمل الجيش تقدمه المدعوم بغارات جوية كثيفة باتجاه الثردة، فقد يتيح له ذلك الوصول إلى القوات المتمركزة في أطراف المطار العسكري. وبذلك يكون قد فرض حصاراً على «داعش» في منطقة المقابر ووادي الثردة وصولاً إلى أطراف البانوراما ونقاط طريق تدمر ــ دير الزور. وهي المناطق التي انسحب إليها عناصر «داعش» بعد وصول الجيش إلى أطراف «اللواء 137».
وفي موازاة العمليات التي وصلت أصداء مدافعها إلى القوات داخل المدينة، عزّز الجيش وحلفاؤه في «قوات العشائر» عملياتهم في ريف الرقة الجنوبي، في محاولة لملاقاة التقدم الأخير وتقليص مساحة سيطرة «داعش» في الريف الغربي لدير الزور تباعاً. وتركزت العمليات على هذا المحور في محيط بلدة السبخة المحاذية لنهر الفرات، في محاولة للسيطرة على عدة بلدات احتلها التنظيم في آخر هجوم له على نقاط الجيش. كذلك، صعّد الجيش من تحركه جنوب غرب بلدة معدان، بالتوازي مع نشاط كثيف لسلاحي الجو الروسي والسوري ضد مواقع التنظيم في البلدة. وتوسعت الاستهدافات الجوية أمس لتطال كامل شريط بلدات الريف الغربي على جوار الفرات، من أطراف البغيلية وعياش حتى شمال غرب التبني.
في الساعات التي تمرّ سريعاً، أعين أهالي الدير شاخصة جنوباً، حيث يقترب «الترياق»… هناك آلاف الجنود يستعدون «لاستقبال» عشرات الآلاف من الصابرين، فلَولا الصامدون لكانت معركة البادية حساب جغرافيا فقط.
(الاخبار)