الرواية الكاملة لعملية الخطف والتفاوض: هكذا أُسر العسكريون وهكذا أُعطي الأمر بتصفيتهم: رضوان مرتضى
أُسدِل الستار على ملف العسكريين المخطوفين لدى تنظيم «الدولة الاسلامية» أمس. ما كان يتداوله قادة الأجهزة الأمنية همساً بات معلناً: «العسكريون الأسرى شهداء»، إلا واحداً يعتقد أنه التحق بالتنظيم في الرقة. الخبر المؤسف الذي تولّى اللواء عباس ابراهيم إعلانه، كان في حوزة الأجهزة الأمنية منذ أشهر، إلا أنّ أحداً لم يكن يملك جرأة إعلانه لعدم توافر أي دليل يقيني يقطع الشك سوى إفادات موقوفين من التنظيم المتشدد. في ما يأتي ملابسات خطف العسكريين وإعدامهم والمفاوضات التي أدت الى الكشف عن مكان دفنهم
في الثاني من آب 2014، أعلن تنظيم «الدولة الإسلامية» انطلاق «غزوة عرسال» بأمر من أمير «داعش» في القلمون أحمد طه المشهور بـ«أبو حسن الفلسطيني». جاء القرار بعد توقيف استخبارات الجيش قائد «لواء فجر الإسلام» عماد جمعة الملقب بـ«أبو أحمد»، الذي كان قد بايع التنظيم المتشدد قبل يومين مع أكثر من مئة مسلح. طه، المسؤول عن إرسال سيارات مفخخة الى الضاحية الجنوبية واستهدافها بالصواريخ في حزيران 2013، أعطى أوامره يومها بقتل وأسر عسكريين لمبادلتهم بجمعة.
وقد شارك مسلحو «جبهة النصرة» مسلحي «الدولة» في احتلال عرسال. يومها، شنّ الجيش هجوماً معاكساً تمكن فيه من إصابة طه الذي قتل متأثراً بجروحه بعد أسبوعين. كان قرار الجيش واضحاً باستعادة العسكريين المخطوفين، لكنّ اتصالاً ورد إلى قائد الجيش آنذاك العماد جان قهوجي من رئيس الحكومة تمام سلام يطلب منه فيه وقف إطلاق النار. ردّ قهوجي بأنّ الجيش يريد تحرير العسكريين الذين كانوا لا يزالون محتجزين في مسجد الشيخ مصطفى الحجيري (أبو طاقية) ومنزله. لكن جواب سلام كان حازماً بأن لا قرار سياسياً بالمضي في المعركة، وشدد على طلب وقف إطلاق النار إفساحاً في المجال لدخول وفد من هيئة علماء المسلمين للتفاوض لاسترداد الأسرى . كذلك طلب سلام، بحسب مصادر عسكرية، انسحاب الجيش من تلة استراتيجية كان قد سيطر عليها. واللافت أن سلام سمّى التلة يومها، وهو ما اعتبرته القيادة العسكرية «أوامر من الخارج» بوقف أيّ عمل عسكري ضد المسلحين.
دخلت هيئة علماء المسلمين على خط التفاوض، ونجحت في إقناع «جبهة النصرة» بإطلاق بعض الأسرى لديها، لكنها فشلت في إقناع تنظيم «داعش». أوّل المفاوضين كان عضو الهيئة الشيخ محسن شعبان الذي عاد من المفاوضات مع قيادة التنظيم بالفيديو الأول الذي ظهر فيه العسكريون المخطوفون وهم يُعرّفون عن أنفسهم، باستثناء العسكري علي العلي الذي كشف المفاوض آنذاك أنّه أُعدِم أثناء اقتياده مع بقية الأسرى على متن «البيك أب»، بعدما حاول انتزاع سلاح أحد الخاطفين، لكنّ القيادي في التنظيم «أبو أسيد التونسي» كان أسرع منه، فطعنه في رقبته، قبل أن يُجهز عليه بإطلاق الرصاص.
نقل مشايخ الهيئة مع الفيديو شرطاً واحداً لإطلاق العسكريين: الإفراج عن جمعة. وعندما رفضت الحكومة اللبنانية، صفّى التنظيم العسكري علي السيد ونشر فيديو مصوّراً لعملية الإعدام. عاد الشيخ شعبان الى الجرود مجدداً، وتمكن من إقناع أمير التنظيم في حينه، «أبو طلال الحمد»، بتسليم جثة السيد، فسُمح له باستخراج جثة الشهيد بنفسه مع تحميله المطلب نفسه بالإفراج عن جمعة. ومع رفض الحكومة، توقّفت المفاوضات وسحبت الهيئة وساطتها.
ضغط سلام على قهوجي لوقف النار بحجة إفساح المجال للتفاوض من أجل إطلاقهم
بعد شعبان، دخل في الملف عدد من الوسطاء، تنوّعوا بين رجال أعمال ومشايخ وموقوفين سابقين وعراسلة، أبرزهم نائب رئيس البلدية السابق أحمد الفليطي (قُتل الشهر الماضي) وشاويش مبنى الإرهاب في سجن رومية سابقاً خالد ملكة، الملقب بـ«أبو الوليد». غير أنّ أحداً لم يتمكن من تحقيق خرق جدّي سوى أحد أبناء عرسال مصطفى بحلق (توفي بسكتة قلبية أثناء الوساطة) والشيخ وسام المصري. قصد المصري الجرود بتكليف رسمي من الأمن العام ليلتقي قيادة التنظيم، وعاد بفيديو جديد يظهر فيه ثلاثة عسكريين مخطوفين، وقد وُضع خنجر على رقبة أحدهم فيما متحدث من التنظيم يتوعّد الحكومة اللبنانية باللغة الفرنسية. حُمِّل المصري لائحة مطالب جديدة تتضمن المطالبة بإطلاق سجناء في رومية. مرة جديدة أبلغت الحكومة الوسيط رفض المطالب، ليتبيّن أن الوزير السابق وائل أبو فاعور دخل على خط الوساطة، وأرسل 280 ألف دولار عبر أحد الوسطاء إلى التنظيم للحؤول دون قتل العسكريين. بقي الأمر على هذه الحال إلى أنّ تسلّم شؤون التنظيم في القلمون كل من الأمير الشرعي «أبو الزبير السعودي» والأمير العام «أبو بلقيس العراقي» و«أبو بكر الرقاوي» موفدين من قيادة التنظيم، بعد عزل الأمير السابق أبو طلال الحمد واستدعائه الى الرقة مصطحباً معه ابن شقيقته العسكري عبد الرحيم دياب الذي كان قد أعلن انشقاقه. هناك قُتل الحمد بغارة جوية. وفيما تحدثت معلومات عن التحاق دياب بصفوف التنظيم وعمله في أحد المكاتب الإدارية التابعة لشؤون مالية التنظيم، أفادت معلومات أخرى بأنه قتل في إحدى المعارك. أما العسكريون الثمانية، بحسب مصادر مقرّبة من التنظيم، فقد أمر «أبو الزبير» بإعدامهم. ورغم اعتراض عناصر التنظيم بذريعة أن مبادلتهم ستحقق مكاسب مالية وتحرر سجناء، أصرّ الأمير الوافد حديثاً على أنّ «هناك قراراً شرعياً من الرقة بإعدامهم لكونهم كفّاراً محاربين». وقصد المغارة حيث كانوا محتجزين وأعطى الأمر بتصفيتهم، فيما أرسل «أبو بكر الرقاوي» رسالة إلى أهل أحد العسكريين يُبلغهم فيها «عودوا إلى بيوتكم ، لقد قُتل أبناؤكم». غير أنّ آخرين في التنظيم أرسلوا إلى الأهالي رسائل معاكسة للعب بأعصابهم، يزعمون فيها أنهم لا يزالون على قيد الحياة.
روايات الموقوفين وتكتّم الأجهزة
منذ أكثر من سنة، اعترف أحد أعضاء التنظيم ممن أوقفتهم استخبارات الجيش بأنّ العسكريين المخطوفين أُعدموا. وفي السياق نفسه، أدلى موقوف آخر لدى الأمن العام برواية مفصّلة عن إعدامهم. وجاءت الروايتان لتؤكدا رواية سابقة أدلى بها موقوف ثالث لدى الأمن العام تؤكد الإعدام، وتكشف هوية قاتلهم بالاسم والكنية، وتحدّد مكان دفنهم في إحدى المغاور في وادي الدبّ. غير أنّه، بحسب المصادر الأمنية، لم يكن بالإمكان الوصول إلى الموقع لكونه مكشوفاً أمام نيران مسلحي «داعش». حتى إنّ رحلة ضباط الأمن العام في الجرود قبل أشهر لانتشال أربع جثث من إحدى المغاور كانت للتثبّت من المعطيات التي في حوزة الأجهزة الأمنية، قبل أن تُبيّن فحوصات الحمض النووي أنها لا تعود للعسكريين.
مع انطلاق معركتي «فجر الجرود» و«إن عدتم عدنا»، وشنّ الهجوم من جبهات متعددة، أخلى مسلّحو «داعش» مواقعهم، فحُرِّرت معظم الأراضي المحتلة، ومن بينها النقطة التي كانت تُشرف على الموقع المفترض لدفن العسكريين. وقبل خمسة أيام، توجّه موكب من الأمن العام إلى البقعة المحددة، لكن لم يُعثر على أيّ أثر لجثامين الشهداء. ومع استسلام عشرات المسلحين لمقاتلي حزب الله، أكّد بعضهم الرواية التي في حوزة الأجهزة الأمنية اللبنانية. انطلقت مجموعة من حزب الله بمرافقة دليل من المسلحين لإرشادهم إلى مكان دفن الجثث (علماً بأن الرفات كان في مكانين منفصلين). انطلق بعدها ضباط وعناصر من الجيش والأمن العام إلى المكان المحدد (تبيّن أنه بالقرب من المكان الذي سبق أن حدّده الموقوف لدى الأمن العام)، حيث انتشلت الجثث الثماني أمس.
الوساطة والمفاوضات
وحول رواية المفاوضات والوساطة، تنقل المصادر أنّ المفاوضات بين حزب الله وتنظيم «داعش» في القلمون تولاها شقيق «أمير التنظيم» موفق الجربان المشهور بـ«أبو السوس»، المدعو عمر الجربان، إضافة الى ابن خالته ووسطاء آخرين بينهم كويتي. كذلك استعان الأمن العام بأحد المحكومين في سجن رومية أحمد مرعي الذي لعب دوراً في الوساطة مع أفراد من قيادة التنظيم قبل بداية المعركة. وكان البند الأول الذي وضعه الحزب لإتمام الصفقة كشف مصير العسكريين المخطوفين وتسليم جثثهم، إضافة إلى تسليم جثامين 4 شهداء من حزب الله مدفونين في وادي ميرا في القلمون السوري، وشهيدين وأسير لدى «داعش» في البادية السورية، فيما تمحورت مطالب قيادة التنظيم حول الضمانات لخروج مسلّحيه. ورغم أنّ المعلومات تؤكد أن قيادة التنظيم في الرقة ترفض بشكل قاطع أيّ تفاوض، إلا أنّ الجربان اتّخذ قراره بالتفاوض لضمان سلامته. وتكشف المعلومات أنّ مسلحي «داعش» الذين سلّموا أنفسهم لحزب الله تلقّوا ضمانات بـ«تسوية أوضاع» بعد موافقة الدولة السورية. و«تسوية الأوضاع» تعني تنظيف سجلهم والسماح لهم بالالتحاق بعائلاتهم في أماكن سيطرة النظام، أسوة بالمسلحين الذين سلّموا أنفسهم في بداية الأحداث. ورغم استعداد ١٧ حافلة لنقل مسلحي التنظيم البالغ عددهم ٣٥٠ مسلحاً إلى محافظة البوكمال، إلا أنّ مصادر تكشف أنّ بعض المسلحين، ومن بينهم أبو السوس، طلبوا نقلهم إلى مناطق لا تسيطر عليها «الدولة الإسلامية». وفي هذا السياق، تؤكد مصادر مقرّبة من مسلحي الجرود أنّ معظم الذين يحملون عقيدة التنظيم المتشدد قُتلوا في المعركة أو أجهز عليهم أبو السوس. أما الباقون فمعظمهم من قطّاع الطرق والمهربين وأبناء القصير الذين كانوا في صفوف «الجيش الحرّ».
(الاخبار)