الفوضى والخروج من الفوضى-منير شفيق
المتابع للعلاقات بين الدول في المنطقة العربية- الإيرانية- التركية في ظل ما شهدته من تطورات عاصفة شديدة التقلب خلال الست سنوات الماضية، لا سيما في السنتين الأخيرتين، بل لا سيما في الستة الأشهر الأخيرة، لا بد من أن يحار كل الحيرة، ويشعر بأن تلك العلاقات تتغيّر بسرعة هائلة.
الأمر الذي يجعل كل حكم على أي علاقات يتطلب الحذر الشديد. بل يفترض حدوث تغيّر متوقع وغير متوقع في آن. هذه سمة الفوضى الراهنة وخصوصيتها عن كل فوضى ناهيك عما سبقها من نظام دولي وإقليمي.
طبعا، حين يطلق على حالة سمة الفوضى أي الانتقال من حالة نظام محدد القسمات وقابل للاستمرارية ردحا من الزمان إلى حالة الفوضى، فذلك يعني، تعريفا، اللانظام شكلا وموضوعا.
فالفوضى تعني، تعريفا، حالة من الصراع لا ضابط له. ولكن هذا لا يعني أن أي حالة فوضى تتسم فوضاها بسمات الفوضى الأخرى. فكل حالة فوضى لها خصوصيتها المختلفة والمستقلة، عن أية حالة فوضى أخرى.
من هنا، فإن من يتعاطى مع الفوضى الراهنة في المنطقة العربية- الإسلامية (إيران- تركيا) عليه أن يكون شديد الحذر أمام كل تحليل يقدمه، وكل موقف يتخذه.
وذلك لأنه يفتقر إلى الدليل النابع من تجارب شبيهة سابقة، فضلا عن الحذر من سيطرة المنهجية السابقة لحالة الفوضى الراهنة (منذ ست سنوات) على عقله، وما يحمل من موضوعات وتجارب.
إن الافتقار إلى الدليل والوقوع في إسار الماضي القريب، يشكلان أخطر ما يواجه التحليل في فهم الأوضاع والسياسات، كما هو أخطر ما يواجه إدارة الصراع ورسم السياسات.
فلو أخذنا مثلا على تطورات العلاقات الروسية- الأمريكية- الأوروبية، ثنائيا وثلاثيا، لوجدنا أنفسنا أمام وضع، أو حال يختلف جوهريا عن العلاقات الثنائية أو الثلاثية التي سادت ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى مدى 65 عاما.
ثم لوجدنا علاقات هذه الأطراف الدولية الكبرى، خلال الست سنوات الماضية، دخلت في حالة فوضى من نمط غير معهود.
فمن جهة راحت العلاقة الثنائية الأمريكية- الروسية تشهد تقلبات تتراوح بين الصراع والتعاون والتقاطع، كما التأزيم والانفراج.
أما من الجهة الأخرى، فقد ارتبك التحليل في مختلف المراحل في تحديد اتجاه عام لها، سواء أكان نحو التقارب أم التباعد، وسواء أكان من ناحية المواجهة الحامية (ضرب من تحت الحزام كفرض عقوبات) أم التوافق في مجلس الأمن، أو التعاون في هذه النقطة من الصراع أو تلك.
وها نحن أولا، نشهد الآن حالة من التقلب. أكان مخططا له أم كان عفويا أكثر من أي من الأعوام السابقة. فدونالد ترامب طوال ستة أشهر من عهده لم يستقر على حال.
وعليه قس العلاقات الأمريكية- الأوروبية، والعلاقات الروسية- الأوروبية ولا سيما بعد أزمة أوكرانيا، أو في هذه المرحلة من الصراع في سوريا. وإن الأمر كذلك مع شدة التنوع، حين تراجعت خلال الست سنوات الماضية، لا سيما في السنتين الأخيرتين، العلاقات الأمريكية- التركية كما العلاقات التركية- الأوروبية (خصوصاً ألمانيا)، والعلاقات الروسية- التركية، والعلاقة التركية- الإيرانية، والعلاقات التركية مع البلاد العربية، وخصوصا (التركية- المصرية والتركية- السعودية، والتركية- السورية).
ثم لدينا العلاقات السعودية- القطرية، لا سيما مع الأزمة الراهنة، بعد قيام السعودية ومصر والإمارات والبحرين بحصار قطر.
ما تقدم أمثلة لا تغطي الكثير من التفاصيل والحالات.
أما في المقابل، فيمكن أن يسجل لروسيا على مستوى الدول الكبرى درجة أعلى في الاستقرار والتماسك إزاء التحرك في مواجهة حالة الفوضى. وذلك على الضد من الموقف الأمريكي الذي يتسم بالارتباك والتخبط.
إيران كذلك ثمة درجة عالية من التماسك في سياساتها المتعلقة في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق، كما في علاقاتها بروسيا والصين.
ولكن مع حالة توترات شديدة مع السعودية وإدارة دونالد ترامب إلى جانب تقلب للعلاقات التركية- الإيرانية.
وهذا الجانب الأخير له آثاره السلبية على تعقيد الفوضى والمستقبل العربي- الإسلامي، وذلك بسبب أهمية الدولتين إقليمياً مع انحسار السيطرة الغربية وتراجع تأثير الكيان الصهيوني في المنطقة العربية- الإسلامية، مقارنة بما كانا عليه في مرحلة الحرب الباردة حتى العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين.
على أن المهم أن يُلاحظ في قلب هذا الخضم من الفوضى، أن مرحلة ما سمي بداعش في العراق وسوريا، ومرحلة النصرة (القاعدة) في سوريا، آخذتان بالانحسار والنهاية، مع بقاء عمليات فردية متقطعة بالنسبة إلى داعش في ضرب مدنيين هنا وهناك.
ولكن ماذا بعد هذا الانحسار وهذه النهاية في العراق وسوريا؟
فالأمر ما زال مفتوحا على احتمالات لأن القوى الأساسية ذات التأثير الأكبر في مجريات ما حدث من فوضى خلال الست سنوات الماضية، ما زالت على حالها من الصراع والتنافس مما لا يجعل خروج داعش والنصرة من هذه المعادلة مؤثراً في مصير الموازين القائمة ومستقبلها.
فالطريق ما زال طويلا ومعقدا ما دامت الفوضى آنفة الذكر هي التي تتحكم في العلاقات ما بين الدول والقوى الرئيسة المؤثرة في ميزان القوى العام عالميا وإقليميا ومحليا.
فليس هناك من قوة، أو تحالف عدة قوى قائم بعد، يستطيع أن يحسم الصراعات الدائرة. ويثبت نظامه الجديد عالميا وإقليميا ومحليا. فالعلاقات الأمريكية الروسية ما زالت تراوح بين الصراع والتقاطع بل السعي للتفاهم فيما الضرب تحت الحزام جارٍ بينهما على قدم وساق.
فروسيا ما زالت تسعى لصفقة مع أمريكا، مما لا يسمح بتشكل تحالف إقليمي- روسي باتجاه الحسم.
والأهم أن إيران وتركيا ما زالتا بعيدتين من التفاهم لحسم هذه الفوضى لأسباب تتعلق في كلٍ منهما وبحذره من الآخر أو بشكه في الآخر، ما يحول دون تشكل تحالف تركي- إيراني- عربي باتجاه الحسم والخروج من حالة الفوضى.
أما أمريكا وأوروبا، فقد انتهى زمن إمكان الحسم من قِبلهما.
فأيام ما بعد الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، ولت.
وما كان لهما من سيطرة على النطاقين العالمي والإقليمي بما في ذلك قدرة الجيش الصهيوني على الحرب والاكتساح أصبحا من الماضي كذلك.
فهما الآن في موقع التعايش مع الفوضى ومحاولة الإفادة مما أمكن منها، ولكن ليس بقدرتهما منفردتين أو مجتمعتين من تشكيل تحالف يحسم هذه الفوضى ليقيما نظامهما من جديد.
ولهذا، فإن كرة الحسم بصورة رئيسة في ملعب كلٍ من روسيا وإيران وتركيا من خلال تآلف ثلاثي، أو في ملعب إيران وتركيا من خلال تآلف ثنائي يتوسع عربيا.
وإلا فما زال الطريق طويلا ومعقدا.