الأزمة الكورية وأبعادها الدولية: زياد حافظ
بينما ينصبّ الاهتمام الإعلامي العربي على قضايا المنطقة تجري أحداث في شرق آسيا لا تقلّ أهمية عما يحصل في الساحات السورية والعراقية ولفلسطينية والخليجية. فالأزمة الكورية التي افتعلها حزب الحرب داخل الإدارة الأميركية مع كوريا الشمالية لها تداعيات على الصعيد الدولي والإقليمي وإلى حدّ كبير في الساحات العربية .
أولاً، أقدمت الإدارة الأميركية على سلسلة من العقوبات بحق كوريا الشمالية ومعها إيران وروسيا ترافقها لهجة تصعيدية تنذر بأنّ الحرب أصبحت وشيكة. ما زالت الولايات المتحدة غير مستوعبة نتائج شبه الهزيمة التي مُنيت بها في حربها على كوريا في بداية الخمسينات. كما أنها لا تغفر لكوريا الشمالية دورها في تحرير عدد من الدول الأفريقية من قبضة الاستعمار، تؤازرها في ذلك كوبا. كما لا تغفر لكوريا الشمالية مشاركتها في الدفاع عن مصر خلال حرب الاستنزاف. ولا تغفر لكوريا الشمالية تزويد سورية والعراق في حقبة الرئيس الراحل صدّام حسين والجمهورية الإسلامية بصواريخ، ولا مساعدتها في اكتساب التكنولوجية النووية. كما لا تقبل الولايات المتحدة دخول بلد آخر في النادي النووي التي تزعم أنها تسيطر عليه. ولا ننسى أنّ جورج بوش الابن هو من أدخل كوريا الشمالية في «محور الشر» الذي ضمّ أيضاً الجمهورية الإسلامية والعراق أيام حكم حزب البعث العربي الاشتراكي. فلكلّ هذه الأسباب تسعى الولايات المتحدة إلى قلب النظام القائم في كوريا الشمالية.
ثانيا، إنّ كوريا الشمالية استفادت من درس احتلال العراق والعدوان على ليبيا للمباشرة في امتلاك القدرة النووية لحماية نفسها من العدوانية الأميركية. وحق الدفاع عن سيادتها مشروع لا تستطيع الولايات المتحدة نزعه. لا تنسى كوريا الشمالية ما فعلته الولايات المتحدة بفيتنام الشمالية خلال الستينات والنصف الأول من السبعينات من القرن الماضي وما رافقه من رعب عند سكان فيتنام ولاوس. ومن حق الأميركيين أن يشعروا بدورهم بالرعب من كوريا الشمالية إذا ما أقدمت الاعتداء عليها. فأيّ اعتداء على كوريا الشمالية سيتحوّل إلى مجابهة نووية.
في هذا السياق نذكّر أنّ الرئيس السابق بيل كلينتون فكّر جدّياً بشنّ حرب على كوريا الشمالية. قيادات البنتاغون قدّمت تقريراً أولياً عن الخسائر المرتقبة في هذه الحال. فالخسائر البشرية قد تصل وفقاً لهذه التقديرات إلى أكثر من مليون شخص في كوريا الجنوبية والشمالية واليابان وإلى خسائر مادية تفوق التريليون دولار. فتمّ غضّ النظر عن الهجوم.
ثالثاً، عندما أقدمت إدارة ترامب على التصعيد الدبلوماسي والتلويح بالعمل العسكري التأديبي على لسان السفيرة الأميركية نيكي هالي لدى الأمم المتحدة لم تلاق الإدارة استجابة من قبل الرئيس المنتخب الجديد لكوريا الجنوبية مون جاي اين، وهو صاحب الميول اليسارية ويبغض الحرب على كافة أشكالها. تفيد المعلومات أنه رفض الردّ على المكالمة الهاتفية للرئيس ترامب بحجة وجوده خارج العاصمة في عطلة. بالمناسبة، كان توقيت إطلاق الصاروخ العابر للقارات من قبل كوريا الشمالية عشية أهمّ عطلة عند الكوريين. عدم الردّ على المكالمة الهاتفية كان إشارة واضحة إلى أنّ كوريا الجنوبية لا تحبّذ الكلام التصعيدي العسكري. كذلك الأمر مع رئيس وزراء اليابان شنزو آبي الذي يواجه شعبية متدنّية في استطلاعات الرأي العام. فالرئيس الكوري الجنوبي يعلم جيّداً أنّ التلويح بالحرب يجعل نظيره في الشمال في حالة قلق متزايدة. فرغم الخطر الذي يشكّله امتلاك كوريا الشمالية سلاح نووي فإنّ رئيس كوريا الجنوبية يفضّل المقاربة الهادئة. والشعب الكوري الجنوبي يشاطره الرأي. وكذلك الأمر بالنسبة لليابان والصين وروسيا.
من جهة أخرى فإنّ أعضاء حكومة الرئيس مون تضمّ رئيس الاستخبارات الذي ساهم في تحضير القمتين بين كوريا الجنوبية والشمالية عامي 2000 و2007. كما أنّ الحكومة تضمّ وزير التوحيد الكوري الذي أمضى سيرته المهنية في تلك الوزارة ويملك الخبرة الواسعة في التفاوض مع نظرائه في كوريا الشمالية. أما مستشار الأمن القومي الكوري فهو لواء سابق ساهم في الحوارات العسكرية والمحادثات السداسية لنزع الأسلحة النووية. وتضمّ الوزارة أيضاً الأستاذ مون شانغ اين المنظّر للحوار الاستباقي مع كوريا الشمالية. أما نائب وزير الدفاع الكوري الجنوبي فإنه من دعاة تخفيض الاتكال على الولايات المتحدة ويطالب المزيد من الاستقلالية عنها. وأخيراً، وزيرة الخارجية الكورية الجنوبية كانت سفيرة لبلادها في الأمم المتحدة ولها خبرة واسعة في المفاوضات. كما أنها كانت المترجمة الخاصة للرئيس الكوري صاحب سياسة الضوء الشمسي، أيّ الانفتاح. إذاً، هذه الحكومة لم تشكّل لمواجهة كوريا الشمالية بل العكس وتسعى لتحسن العلاقات ونزع فتائل التوتر وهذا ما فهمه ترامب.
فما هي تداعيات الأزمة الكورية؟
من جهة هناك خيار الحرب الذي يحبّذه حزب الحرب داخل الإدارة الأميركية وداخل ما يُسمّى بالدولة العميقة. لكن في المقابل فإنّ الحزبين الديمقراطي والجمهوري يؤيّدان ترامب في استبعاد خيار الحرب. إذاً ما معنى التصعيد الكلامي؟
في رأينا، نعتقد أنّ الكلام الموجه لكوريا الشمالية هو كلام فعلياً موجّه للصين. فكما يقول المثل الشعبي «يا جارة خلّى الكنّة تسمع». لا يغيب عن بال القيادة الصينية أبعاد كلام ترامب الذي حمّل الصين وروسيا مسؤولية عدم لجم كوريا الشمالية. فكان الردّ الاستعراضي العسكري الصيني المعدّ مسبقاً وقبل كلام ترامب. لكن لباس الميدان للرئيس الصيني كان النقطة الفارقة خاصة أنّه بعد بضعة ساعات من العرض العسكري التقى وفوداً أجنبية في العاصمة الصينية في لباسه المدني الأنيق.
أما كوريا الشمالية فهي تدافع عن سيادتها. الصين وروسيا حريصتان على عدم إسقاط النظام في كوريا الشمالية لأنّ ذلك يعني اقتراب الولايات المتحدة من الحدود الصينية والروسية، ولأنّ انهيار النظام سيسبّب كارثة اجتماعية ومجاعة ونزوح سكّاني مع تداعياته الأمنية على كلّ من الصين وروسيا. هناك تنسيق واضح بين الصين وروسيا في مقاربة الملفّ الكوري وأيضاً في مواجهة التصعيد الأميركي. كلام وزير الخارجية الروسي كان قاسياً بحق الولايات المتحدة ومزاعمها حول كوريا الشمالية.
وكما أشرنا أعلاه فإنّ حليفي الولايات المتحدة في المنطقة، أيّ كوريا الجنوبية واليابان، على غير استعداد لخوض مغامرة عسكرية يدفعان فيها الثمن الأكبر والباهظ جداً. فلا ننسى أنّ العاصمة سيول على مسافة عشرين ميل فقط من الحدود مع كوريا الشمالية وأنها ستتعرّض لدمار شبه شامل.
فإذا المزاج السياسي الداخلي الأميركي لا يريد الحرب، وإذا كان حلفاء الولايات المتحدة لا يريدون أيضاً الحرب، وإذا كانت كلّ من الصين وروسيا لا تريدان الحرب، فهل الحرب ممكنة؟ الحماقة من أيّ طرف قد تدفع لمجابهة لا يريدها أحد، ومن هنا يفقد الكلام التصعيدي جدواه. إلاّ أنّ الكلام الكبير الأميركي قد تكون وظيفته داخلية وليست خارجية، أيّ لدعم موقف رئيس أميركي يواجه المزيد من الإخفاقات الداخلية، ما يؤكد الانطباع أنّ الولايات أقرب لتكون نمراً من ورق رغم القوّة النارية التي تملكها. فهي تملك الترسانة ولا تملك الإرادة التي لا تستطيع أن تتحمّلها. ونتائج هذا التناقض بين الكلام والفعل ستبرز في العديد من الملفّات الساخنة في المنطقة العربية. فهل هناك من سيكترث لتهديدات الإدارة الأميركية؟
(البناء)