ما بعد حرب الجرود: طريق بيروت ـــ دمشق سالكة بلا تفاوض نقولا ناصيف
كما تطلّب تحرير الجنوب عام 2000 وقتاً طويلاً لِكَنه ما سيكون عليه حزب الله وكلفة هذا الانجاز، كذلك حرب تموز 2006 اذ افضت الى ثمار جانبية صححت التوازن في الصراع الداخلي، ستحتاج حرب الجرود الى وقت مشابه من التفكير في مستقبل سلاح حزب الله
شأن ما لحرب جرود عرسال ابعاد اقليمية شتى، منها ما يرتبط بمواجهة الارهاب والتنظيمات المتطرفة وتصفية وجودها، ومنها ما يرتبط بتمكين النظام السوري من استعادة السيطرة على بلاده، ومنها ما يرتبط بتعزيز المحور الاقليمي الذي تقوده ايران في جبه خصومها الاقليميين والدوليين، لها كذلك تداعيات محلية تتبدى تدريجا ما ان تضع الحرب هذه قريبا اوزارها:
أولها، وضع حد نهائي لمحاولة ربط تمركز التنظيمات الارهابية في الجرود بمخيمات النازحين السوريين في الداخل، وفي عرسال خصوصا.
لوقت طويل منذ انتشار التنظيمات تلك في هذه المنطقة عام 2014، ومن قبلها منذ السنة التالية لاندلاع الحرب السورية عام 2012 عندما حاولت التمدد الى الحدود اللبنانية، نُظر الى هذا الوجود على انه اداة ضغط على حزب الله ومحاصرته من المناطق المطلة على رقعة نفوذه في البقاع الشمالي، وتوجيه تهديد مباشر اليه. تاليا ارساء معادلة بندقية في مواجهة بندقية، وقد ضمرت في الاصل وضع بندقية سنّية تمثلها التيارات الارهابية تلك وجها لوجه مع البندقية الشيعية.
اولى الرسائل عسكرية هي محاولة تقدم التنظيمات الارهابية الى القصير، من ثم كرّت سبحة رسائل امنية من خلال السيارات المفخخة واحزمة الانتحاريين وصلت الى بيروت، من ثم رسائل عسكرية اخرى هي محاولة الاستيلاء على عرسال. رمت ايضا الى التضييق على مشاركة حزب الله في الحرب السورية بنقل المواجهة الى ملعبه، وتحميله وزر استدراج الارهاب الى الداخل اللبناني، ولم يكن انقضى وقت على اكتشاف باخرة تنقل اسلحة الى المعارضة السورية من طريق مرفأ طرابلس، ولا على افصاح المعارضة السورية، من داخل التنظيمات الارهابية وخارجها، بسعيها الى الوصول الى ثغر بحري هو مرفأ طرابلس. كانت تلك الخطوات الممهدة لاحتلال الجرود في وقت لاحق.
سقوط الجرود جرّد المخيمات من الاستثمار السياسي
ثانيها، قطع اي صلة لتجمعات الجرود بمخيمات النازحين السوريين في الداخل اللبناني، وكان ثمة بين الافرقاء اللبنانيين مَن راح يشجع على توفير بيئة حاضنة للتيارات الارهابية في مخيمات النازحين، كما في البيئة المضيفة لها بذريعة ان المسلحين هؤلاء هم معارضون للنظام السوري، يهربون من بطشه، ما يقتضي ــــ بالنسبة الى الفريق اللبناني الداعم معارضي الرئيس بشار الاسد ــــ حمايتهم وتوفير مقومات صمودهم، ومدّهم بما يحتاجون اليه في المواجهة المسلحة للسيطرة على المقلب الآخر من الحدود، في الزبداني والقلمون في طريق اسقاط العاصمة دمشق ومن ثم النظام برمته. في جانب من هذا الدعم تقييد مقدرة الجيش اللبناني حينذاك على الاشتباك مع التنظيمات الارهابية، الى ان دخلت هذه الى عرسال في آب 2014 وخطفت العسكريين واعدمت عددا منهم وابقت على آخرين لا يزالون اسرى. بحجج الاستشفاء وتأمين المياه والوقود والتغذية والمال، انشأت التنظيمات الارهابية في عرسال ومخيماتها ما يكفي من الخلايا.
لم تعد الحال كذلك في الاشهر الاخيرة عندما باشر الجيش اجراءات فصل مخيمات النازحين عن الجرود، وقاد هجمات عسكرية ضد المسلحين الارهابيين، ناهيك بدهم المخيمات فكك فيها وخارجها خلايا انتحاريين. ابان الايام الاربعة المنصرمة من حرب الجرود بدا ان مخيمات عرسال ــــ وفي صفوفها عائلات مسلحي الجرود ــــ اضحت في الجانب الآخر من الصدام. رفعت اعلاما لبنانية، وتنصلّت مما يجري في الجرود، وطلبت حماية الجيش لها.
ثالثها، ليس من باب المصادفة ان تيار المستقبل ــــ وهو يصر على تأكيد رفض سلاح حزب الله واعتباره معتديا على الدولة ــــ يلزم الصمت حيال ما يجري في الجرود. ما خلا الموقف المعروف بربط النزاع مع حزب الله، المتواتر من حين الى آخر، لم يقل رئيس الحكومة سعد الحريري ما يشي بأنه يرفض ما يجري هناك، ولا حمل حكومته على موقف مماثل وهو على طرف نقيض من رئيس الجمهورية ميشال عون من حزب الله، ولا شاء ان يحيّدها حتى. كذلك لاذ حلفاؤه بالصمت، واكتفوا بالوقوف وراء الجيش الذي كان يقف الى جانب حزب الله في حرب الجرود. ميز الحريري بين تصرّف حزب الله هناك على انه جزء لا يتجزأ من آلة النظام السوري، وبين الجيش اللبناني المنوط به حماية المخيمات والنازحين المدنيين. لم يعد في تيار المستقبل مَن ينظر الى التيارات المتطرفة تلك على انها تمثل المعارضة الصالحة لخلافة نظام الاسد، على وفرة مرات تمييزه جبهة النصرة عن تنظيم داعش.
رابعها، مع ان طريق بيروت ــــ دمشق مفتوحة في الاصل، وتبعد كثيرا عن ساح الحرب الدائرة في الجرود، الا ان نجاح الشق السوري اولا فيها بتصفية المسلحين المتطرفين، واقتراب انجاز الشق اللبناني، يجعلان طريق بيروت ـ دمشق بابعادها السياسية بعد مقتضياتها الجغرافية اكثر من سالكة، كي يرفد كل من النظام السوري وحزب الله احدهما الآخر بكل اسباب الدعم ومواجهة الخصوم والاعداء في آن. وسواء اختارت الحكومة اللبنانية التفاوض مع نظيرتها السورية في ملف عودة النازحين ام تمسكت بانقسامها عليه، لم يعد في الامكان التعامل مع المخيمات على انها ورقة ضاغطة على النظام السوري والدولة اللبنانية معا، مرتبطة مرة بسلاح حزب الله واخرى بانسحابه من الحرب السورية وثالثة بانتظار سقوط النظام السوري كي يعود النازحون الهاربون.
كان احد ابرز المؤشرات تولي الجيش اللبناني عشية حرب الجرود تنظيم قافلة نازحين عائدين الى بلادهم قاربوا المئة، بعد حمايته اكثر من قافلة في الاشهر المنصرمة لمئات منهم رجعوا الى قراهم في الداخل السوري.
(الاخبار)