بقلم ناصر قنديل

حرب العقول والقلوب المكان والزمان والتقنيات: العملية المثالية… لكن المستحيلة

nasser

ناصر قنديل

– عند النظر إلى خريطة الأهداف التي يمكن للمقاومة أن تفكر فيها من الزاوية النموذجية، ستكون العملية التي نفذت هي العملية التي تحمل مواصفات العملية المثالية، فمزارع شبعا أرض لبنانية محتلة، نص القرار 1701 على قيام الأمم المتحدة بالتوصل إلى صيغة تضمن استعادتها بالطرق الديبلوماسية، وعرضت لهذا الغرض تسلّمها من قوات «اليونيفيل»، وقامت «إسرائيل» بتعطيل ما بدا حينها أنه نصف حلّ، وأنه حماية لـ«إسرائيل» من عمليات المقاومة، وعلى رغم صبر المقاومة لأكثر من ثماني سنوات لا تزال المزارع لبنانية تحت الاحتلال، ما يجعل العمل المقاوم فيها مشروعاً، من دون أن تنتهك أحكام القرار 1701، الذي عجز أصحابه عن الوفاء بعهودهم والتصدّي للعجرفة «الإسرائيلية»، والمشروعية هنا تضاف إليها مشروعية أخرى، فالمقاومة لم تقم بقصف مواقع الاحتلال في المزارع اللبنانية المحتلة، بالانطلاق من الأراضي اللبنانية المحرّرة حيث مفاعيل القرار 1701 تمنع استخدام السلاح، وحيث ينتشر الجيش اللبناني ووحدات «اليونيفيل»، فقدّمت احتراماً ثانياً لقرار لم يحترم العدو موجباته تجاهه يوماً، خصوصاً بآلاف الانتهاكات الجوية للسيادة اللبنانية.

– مزارع شبعا المحتلة منطقة عسكرية بالكامل لا وجود فيها لمدنيين لبنانيين، كي تتهم المقاومة باستعمالهم دروعاً بشرية، وتعريضهم للانتقام، ولا مستوطنين صهاينة كي تتهم المقاومة باستهداف مدنيين وترويعهم وتعريض حياتهم للخطر، أو تدّعي «إسرائيل» إصابة أطفال ونساء في العملية بهدف تشويهها وتشويه سمعة المقاومة، فكلّ ما يتحرك ويحبو في المزارع هو أهداف عسكرية، من آليات ومعدات حربية وجنود وتحصينات لجيش الاحتلال، ويكفي تصاعد الدخان في المزارع إثباتاً على قيام المقاومة باستهداف جيش الاحتلال وإلحاق إصابات في صفوفه.

– بعد أسبوع على عملية القنيطرة وقبل يومين من كلمة سيد المقاومة، توقيت مثالي أيضاً، فالتحضير لأيّ عملية من زاوية تحديد بنك أهداف مسبق يصلح في أهداف ثابتة ذات قيمة استراتيجية تعادل طبيعة الردّ الذي تريده المقاومة، ويصلح في دوريات تقليدية روتينية بين الأهداف المتحركة، وهذه كلها عرضة للتعديل بذاتها ومحيطها وشروطها عندما يعلن جيش الاحتلال الاستنفار ويغيّر الكثير الكثير من إجراءاته الروتينية، ويصير عسكرياً، للعمل في المزارع فرضية واحدة هي ترك طبيعة الهدف المتحرك في مزارع شبعا ووزنه العسكري موضوعاً للتقييم الميداني للقوة التي تولّت تنفيذ المهمة، ومدة الأيام السبعة الفاصلة بين عملية القنيطرة وعملية المزارع أقلّ من قليلة لتحقيق هذا الهدف، واستباق الموعد المقرّر لخطاب سيد المقاومة، الذي كان تحديد موعده مرتبطاً كما يبدو بإفساح المجال لفرضية النجاح بمثل هذه العملية، اليومان الفاصلان هنا بدقة وصعوبة الهدف أكثر من كثير، لتأخذ العملية مداها ويتردّد صداها، ويأتي السيد يرسم بسبابته المعادلة الرادعة الجديدة، ويقول لنتنياهو، نعم مجدداً لقد انتهت اللعبة، والحرب لا نخشاها.

– في شروط العملية ما يجعل العملية المثالية مستحيلة، فالاستنفار العالي الدرجة في منطقة عسكرية مغلقة من كلّ زواياها، ومداخلها ومخارجها، ومساحتها المحدودة وأرضها الجرداء، وطقسها القاسي، عناصر تجعل مهمة التسلل والتقرّب والتربّص لأيام، من دون أن تنجح الطائرات بلا طيار والأقمار الاصطناعية، بكشف المقاومين الذين يفترض وفقاً لطبيعة العملية أن يزيدوا على العشرة، ووفقاً لفرضية الالتحام يفترض أن يزيدوا على العشرين، ووفقاً لمخاطر المفاجآت والتعرّض للقصف والاستهداف والحاجة إلى وحدات حماية وإسناد أن يصل تعدادهم للخمسين، ولأنّ الفشل كارثة معنوية بعد عملية القنيطرة، ولأنّ الوقت من ذهب، ولأنّ مصير معنويات المقاومة ومعادلة الردع في الميزان، فيجب أخذ كلّ الاحتياطات لضمان النجاح، فكيف يمكن في أرض جرداء مليئة بالمواقع العسكرية المحصّنة والطرق المراقبة، والمداخل المحكمة الإغلاق، وتحت أقمار اصطناعية وطائرات استطلاع على مدار الساعة، أن يتسلّل خمسون مقاوماً وأن يختبئوا وأن ينتظروا لأيام، يأكلون ويشربون وينامون تحت أعين العدو من دون أن يكشفهم، وأن ينفذوا عمليتهم بدقة وإتقان في وضح النهار، وأن يعودوا سالمين.

– في وضعية جيش محترف تناقش الفرضية للعملية المثالية ويصرف عنها النظر لأنها مستحيلة، لكن العقول والقلوب عندما تدخل الحرب تجعل المستحيل يصير ممكناً، والإعجاز يصير هو إدمانها، ولعبتها المحبّبة والمفضلة، لتكون القيمة الردعية للعملية بما يتعدّى حجمها، والهدف الذي أصابته والخسائر التي ألحقتها، فتصير القيمة بإعجاز التنفيذ، وإبهار القدرة على تحدّي المستحيل.

– في المقابل، بمقدار ما كشفت العملية التفوّق النوعي للمقاومة على جيش الاحتلال أظهرت هشاشة هذا الجيش كمنظومة عملياتية واستخبارية، لتكون الحصيلة في حرب العقول والقلوب، عشرة للمقاومة وصفراً للاحتلال، وتطلق صافرة الشوط الأول عشرة صفر، ومن يريد شوطاً ثانياً ينتظره البيان رقم اثنين، ومن يلعب في الوقت المستقطع عليه انتظار ضربات الجزاء، ومن يعبث مع اللاعبين الأقوياء ينتظره الكارت الأحمر والطرد من الملعب.

– أمام «إسرائيل» أحد خيارين، أن تقتنع بالفشل، أو أن تفشل، فتذهب إلى التمرين الأصعب حيث ينتظرها ما بعد بعد الجليل.

(البناء)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى