مخاوف التصعيد الاميركي الروسي د.منذر سليمان
“التوتر الاميركي الروسي يتصاعد .. وينذر بمواجهة،” عنوان شبه مشترك بين الصحافة الاميركية والعربية والدولية، يليه عناوين تعبر عن خشية جماعية من “هل ستكون سوريا فتيل الحرب العالمية؟”
تلك القراءة جاءت نتيجة اسقاط القوات الاميركية لطائرة مقاتلة سورية، من طراز سوخوي-22، فوق الاراضي السورية، واخرى ايرانية مسيّرة في الجنوب السوري، وما رافقها من تصريحات حملت لهجة تهديد مبطنة لواشنطن على لسان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.
المؤسسة الاميركية، بكافة أطيافها، لم تخطيء قراءة الرسالة الروسية خاصة تلك التي “علقت” بموجبها خط الاتصال المباشر بين القيادة العسكرية للبلدين في سوريا، واخطارها للبنتاغون بتفعيل نظم الدفاعات الجوية المتطورة في سوريا لتعقب الطائرات الاميركية وتلك الملحقة بها ضمن تحالفها الدولي.
رئيس اركان القوات الاميركية، جوزيف دنفورد، لامس لهجة التهدئة مع موسكو بتصريح مطلع الاسبوع الجاري مؤكداً على ابقاء “الخط الساخن” مفتوحاً بين الجانبين.
أحد ابرز اقطاب اليمين الاميركي المتنفذ، بات بيوكانين، اوضح بصريح العبارة “إن كانت رسالة موسكو لا تنم عن خداع، فاننا قد نكون على اعتاب صدام اميركي – روسي في سوريا،” 20 حزيران.
وذكّر صناع القرار من عدم تفويض الكونغرس لشن حرب في سوريا، ومحذراً من السياسات الراهنة التي “تجرنا للانخراط عميقا أكثر من أي وقت مضى” في الأزمة السورية، وما نشهده راهنا “ربما هي الطلقات الاولى للمرحلة المقبلة (أي) معركة السيطرة على الاراضي والسكان الذبن تحرروا من ربق سقوط الرقة واندثار خلافة داعش.”
السؤال الجوهري الذي يحير المراقبين والسياسيين في واشنطن على السواء يتمحور حول سبر اغوار سياسة اميركية لادارة ترامب حول سوريا. العديد منهم يسارع للجزم بغياب سياسة واضحة المعالم وما يجري هو مزيج من اساليب التجربة والخطأ ارضاءً لبعض القوى المستفيدة من التصعيد مع موسكو بالدرجة الاولى، والذين لا يخفون سعادتهم لتدهور العلاقة القطبية “الى أدنى مستوى منذ أزمة الصواريخ الكوبية،” تشرين2 / نوفمبر 1962.
كما دق مجمع علماء الذرة الاميركي ناقوس الخطر من صدام القطبين محذراً من “احتمال نشوب حرب نووية كارثية إذ أضحى اقرب مما كان عليه منذ عام 1953،” الذي دشن عصر الانزلاق نحو حرب نووية بعد تدهور سبل “الحوار” وتوقفها عملياً بين الدولتين.
بالمقابل، شدد بعض الخبراء في الشأن الاقتصادي على بُعد السيطرة على منابع الطاقة، بالتدليل على مساس العقوبات الاميركية بصناعة النفط والغاز الطبيعي في روسيا “لأن المستفيد الأوحد من تلك السلسلة العقابية هي شركات انتاج الطاقة الاميركية.”
وكالة بلومبيرغ الاميركية للانباء ذهبت ابعد من ذلك بالاشارة الى ان العقوبات الاميركية ترمي ايضا الى انهاء العمل بخط انابيب نفط الشمال الذي من شأنه “منافسة الصادرات الاميركية من الغاز الطبيعي المسال الى اوروبا؛” مذكِّرة ايضا بفحوى قرار العقوبات الصادر عن مجلس الشيوخ.
قرار المجلس، وفق قراءة الوكالة، يطالب الحكومة الاميركية “بايلاء الاولوية لتصدير موارد الطاقة الاميركية .. ومساعدة حلفاء وشركاء اميركا، ولتعزيز السياسة الخارجية للولايات المتحدة.”
يشار في هذا الصدد الى الخلاف الاوروبي مع واشنطن على خلفية العقوبات الاميركية ضد روسيا، وقطاع الطاقة بشكل خاص. اذ صدر بيان مشترك بين وزير الخارجية الالماني، سيغمار غابريل، والمستشار النمساوي، كريستيان كيرن، بلجة متشددة غير مسبوقة “لحلفاء اميركا.” واوضح البيان ان “امدادات الطاقة لاوروبا هو شأن اوروبي، وليس من (صلاحيات) الولايات المتحدة.”
وانضمت يومية فاينانشال تايمز اللندنية المرموقة للتنديد بقرار العقوبات الاميركي بانه “يأتي في سياق معارضة (واشنطن) انشاء خط انابيب الشمال 2، والذي من شأنه مضاعفة انتاج غازبروم (الروسية) لتوريد الغاز الطبيعي لاوروبا اسفل مياه بحر البلطيق.” واضافت ان شركات اوروبية كبرى سيلحق بها الضرر من العقوبات الاميركية، منها شل وانجي، والتي “تقوم بتمويل الخط.”
قرار التصعيد أتى من خارج البيت الابيض
انطلاقا من ان التصعيد بدأ في واشنطن واتخذ ابعاداً علنية، من المفيد القاء الضوء على القوى والعوامل التي استدعت تلك التوجهات قبل ان تستتب الأمور للادارة الجديدة ولتقويض توجهاتها “التصالحية” مع موسكو حسبما أعلن الرئيس ترامب ذلك مرات عديدة.
تجدر الاشارة في هذا الصدد الى “التعزيزات العسكرية الاميركية” بإعلان البنتاغون عن نشر نظم صواريخ متحركة، هيمارس، بغية “تعزيز الدفاعات عن قاعدة التنف” بمحاذاة الحدود الاردنية السورية. يستطيع ذاك النظام اطلاق ستة صواريخ موجهة دفعة واحدة ضد اهداف في محيط دائري يصل الى 70 كيلو متر، أو اطلاق قذيفة صاروخية واحدة ضد هدف يبعد 300 كلم عن منصة الاطلاق.
القوى الاميركية التقليدية المعادية لروسيا ولحقائق الصراع الجيوستراتيجي على المستوى العالمي، ابرزها تراجع الدور الاميركي وبروز اقطاب دولية متعددة، ما فتئت تلقي الاتهامات جزافاً على موسكو والرئيس بوتين تحديداً لمزاعم اصداره أوامره لقرصنة اجهزة الانتخابات الاميركية. ورأت فيها الذريعة التي يمكن الاستناد اليها، أسوة بذرائع واهية سابقة اقترفتها المؤسسة في شن حروب فيتنام والعراق وليبيا، وحشد الدعم الشعبي بعد تبسيط المعادلة بصورة مُخِلًة بالمنطق.
تكررت حوادث “الاقتراب من الصدام” بين القوتين منذ اسقاط المقاتلة السورية. حلقت مقاتلة روسية على مسافة قريبة جدا من طائرة استطلاع اميركية فوق مياه بحر البلطيق، واقتربت لنحو 1.5 متراً. ورد الجانب الاميركي بالتحليق بالقرب من طائرة روسية تقل وزير الدفاع متجهة الى مدينة كاليننغراد على بحر البلطيق، وسارعت “مقاتلة روسية مرافقة للوزير، من طراز سوخوي-27، بالتموضع بين طائرة الوزير والمقاتلة الاميركية، ومالت بجناحيها امام الطائرة الاميركية لتكشف عن حمولتها التسليحية،” حسبما افادت وكالات الانباء.
أهم اقطاب المؤسسة من دعاة الحرب والاشتباك، السيناتور ليندسي غراهام، صرح في مقابلة متلفزة لشبكة سي بي أس للانباء، 11 حزيران الجاري، بل بَرِع في استنهاض همة الرئيس قائلا “أنت القائد الأعلى للقوات المسلحة. ينبغي عليك الوقوف بوجه روسيا. لن نقدم على اعادة تقييم علاقتنا مع روسيا مطلقا حتى تتم معاقبتها لتدخلها في تقويض ديموقراطيتنا. نقطة البدء هي تثبيت انزال عقوبات إضافية.”
بعد أيام معدودة، اعلنت الحكومة الاميركية عن سلسلة عقوبات جديدة ضد روسيا، شملت نحو 38 مؤسسة وفرداً، ترجمة لقرار مجلس الشيوخ القاضي بانزال عقوبات ضد روسيا – في سياق قرار ينص على انزال عقوبات ضد ايران.
وزير الخارجية الاميركي، ريكس تيلرسون، سعى لاستيعاب الغضب الروسي بعد اتخاذ موسكو تدابير موازية، منها وقف العمل بالخط المفتوح بين القيادتين العسكريتين للبلدين في سوريا والغاء اللقاء المقرر لنائب وزير الخارجية الاميركي توم شانون لبحث “القضايا التي تعيق تطبيع العلاقات الثنائية …”
تيلرسون أعلن عن انخراطه في بلورة “خطة جديدة” غير متداولة توضح آليات لتحسين العلاقة مع موسكو، قائلاً “ليس بوسع القوتين النوويتين العظميين في العالم التحلي بعلاقة (متوترة). ينبغي علينا اعادة الاستقرار لها ويتعين علينا البدء من نقطة بعيدة.”
أحد كبار المسؤولين في البيت الابيض اوضح حديثاً لحشد محدود من الصحافيين مخاوف الادارة الاميركية لا سيما وان الرئيس “بوتين قد يستدل على آليات يستخدمها لتعقيد السياسات الاميركية في عموم المنطقة (العربية) .. وعقب العقوبات المعلنة قد يلازمه الشعور بأنه ليس هناك ما يخسره بعد الآن باعتماد موقف مواجهة متشدد” مع واشنطن.
واوضح شريطة عدم تحديد هويته ان الرئيس “بوتين لا يلجأ للتصرف كما هو متوقع، أبداً. بوتين يتفادى اتخاذ قرار للرد العسكري المباشر .. وسيلجأ لتطبيق سياسة حاذقة” ذات ابعاد سياسية واقتصادية.
القرار الاميركي في سوريا
لم يعد سراً ان من يصنع القرار الاميركي، في أغلب القضايا والساحات، ليس البيت الابيض، بل وزارتي الخارجية والدفاع وامتدادات الأخيرة في مجلس الأمن القومي عبر المستشار هيربرت ماكماستر، ولكن بثقل وازن للعسكريين. كما اضحى من المتداول رصد انقسام في الموقف الاميركي حيال تصعيد المواجهات العسكرية في سوريا، يواكبه تباين اراء اقطاب الادارة الاميركية حول إدارة الصراع مع روسيا.
نسوق تلك البديهية، التي اضحت كذلك بعد اقرار الرئيس ترامب مراراً بأن القرار النهائي “يعود لجنرالاته،” للإضاءة على ما صرح به “المسؤول الاميركي الرفيع” دون الافصاح عن هويته مؤخراء ليومية واشنطن بوست، 21 حزيران الجاري. اذ قال بصريح العبارة ان “البنتاغون وليس البيت الابيض هي من اتخذ قرار اسقاط المقاتلة السورية وطائرة الاستطلاع الايرانية بدون طيار.”
وأمعن في التوضيح بأن سلاح الجو الاميركي “اسقط طائرة معادية لأول مرة منذ ما ينوف عن عقد من الزمن مما يعني (ان البنتاغون) تقبل بمستوىً عالٍ (نتائج) المغامرة.”
بيد ان آليات اتخاذ القرار بين البيت الابيض والوزارتين السياديتين يشوبها صراع بين مراكز قوى متعددة. المسؤول الاميركي المعروف لدى الصحيفة ابلغها ايضا ان من ضمن مهامه متابعة الملف السوري برمته، اما “بالنسبة (لفريق البيت الابيض)، فإن الأرق الأكبر الشاغل هو ايران .. (السياسة الاميركية) تمر عبر عدسة ايران.”
في سوريا ايضاً، تشير المعلومات من داخل البيت الابيض ان الرئيس ترامب وفريقه “يحثون البنتاغون على انشاء مواقع عسكرية في الصحراء” السورية (مستوطنات في الاصل) “لإعاقة تبلور حضور عسكري سوري أو ايراني والذي من شأنه الازعاج والتعرض للقدرات العسكرية الاميركية.” بيد ان “بعض قادة البنتاغون يقاومون الخطوة.”
وعليه يبرز السؤال ما هي “المصالح الاميركية في تلك المنطقة” التي تستدعي صداماً مباشراً مع سوريا. مسؤول البيت الابيض اشار الى ان لبلاده “مصالح حقيقية تستوجب القتال من أجلها،” مستطرداً ان “زيادة التواجد الاميركي (في سوريا) لا يتطلب انخراط مزيد من القوات” كرسالة طمأنة واهية للداخل الاميركي.
اما السياسي المحافظ البارز بيوكانين، سالف الذكر، فقد أكّد على انه “لا يبدو ان للولايات المتحدة مصالح حيوية” في سوريا، خاصة فيما يتعلق “بمن سيسيطر على الرقة واريافها.”
وحذر بيوكانين صناع القرار من اليوم الذي سيلي “سقوط خلافة داعش في الرقة” وما تطالب به بعض القوى في اميركا من “تعزيز مواقع المسلحين السوريين والكرد، على حساب دمشق، فإننا (حينئذ) سنجد انفسنا في صدام مع سوريا وروسيا وحزب الله وايران وحتى تركيا.”
وناشد بلاده التدخل لدى الكرد “لتحديد خطوط التقدم ” المقبولة في سوريا، حاثاً واشنطن ايضاً على “التفاهم مع الروس والسوريين والايرانيين.” بخلاف ذلك، مضى بيوكانين محذراً ان أي “صدام مع روسيا سيترك تداعيات أبعد نطاقاً وأشد خطورة وحرباً فتاكة للولايات المتحدة .. كيف بوسعنا نربح حرباً كتلك دون رفدها بقوات ضخمة؟“
في سياق الصدام المحتمل بين القوتين العظميين، اضطرت يومية الغارديان البريطانية، 21 حزيران، الى الاقرار بصدقية الجانب الروسي بالقول “تماسك وانسجام موقف موسكو نستطيع قراءته بسهولة .. اما الموقف الاميركي، بالمقارنة، يبدو غير متناسق. التنافس الاميركي – الروسي (في سوريا) يضاعف معدلات مخاطر نشوب حرب عَرَضية.”
صدام ام انفراج
ميل الرئيس ترامب للتفاهم والتعايش مع روسيا يجري تقويضه ومحاصرته بصورة مبرمجة من داخل اقطاب المؤسسة الحاكمة، لا سيما من قبل ابرز عناصرها الثنائي المتشدد في الكونغرس، جون ماكين وليندسي غراهام. اذ من المرجح ان تبقي المؤسسة حبل الفضائح السياسية والمالية معلقا حول رقبة الرئيس تقيد أي حركة مقبلة له في هذا الاتجاه. وعليه، فإن اجواء الصدام وسباق التسلح تبدو طاغية، خاصة بعد نجاح المؤسسة التقليدية في استعادة دول حلف الناتو الرئيسة للانضمام خلفها.
سياسة الصدام ايضا نجد ترجمة عملية لها في عدد من الدول الاوروبية، والمحيطة بالحدود الروسية بشكل خاص، اذ تنشر الولايات المتحدة اسلحة وقوات مقاتلة، والضغط المستمر على دول الحلف بتحمل قسط اكبر من اعباء المشهد العسكري “لردع روسيا.”
تبلور اقطاب دولية اخرى، كما شهدنا في انضمام ايران لمعاهدة شنغهاي للتعاون الاقتصادي، وحفاظ تركيا على مقعدها كمراقب، لن يرضي واشنطن وستسعى بكافة السبل لاخراج بعض القوى الرئيسة مثل الهند، وربما تركيا. بيد ان صراعات مراكز القوى داخل الاقطاب الرأسمالية، معاهدة برايتون وودز، ستقيد حرية حركتها في المدى المنظور، لا سيما في القارة الاوروبية بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي.
اما في سوريا، يلحظ تقاطع كافة الاطراف، سوريا وحلفاءها من جهة، واميركا ومن تدعمهم من مسلحين وقوى محلية، في مسألة تفضيل اللعب على حافة الهاوية دون الانزلاق الى الصدام المباشر – على الأقل في الفترة الزمنية المرئية.
نتائج الميدان عسكريا وانتصارات الجيش العربي السوري تسهم في احباط محاولات الطرف المقابل بتجسيد التقسيم، مهما تعددت المسميات والاوصاف. اميركا لن تسلم بسهولة في تراجعها هناك، لكنها لا تملك ترف الزج بقوات عسكرية مقاتلة اميركية لاعتبارات داخلية صرفة ابرزها عزوف الشعب الاميركي عن تحمل رؤية ضحايا اميركيين باعداد كبيرة في ساحة اشتباك لم “يفوّض الكونغرس” شن حرب فيها.