يوم القدس ومعركة الوعي
غالب قنديل
يعيد بعض الكتاب الغربيين جذور النزعة المناهضة للصهيونية في الثورة الإيرانية إلى علاقات التنسيق الوثيقة بين جهازي مخابرات الشاه والكيان الصهيوني : السافاك والموساد وما نتج عن ذلك في معاناة أجيال من المناضلين ضد نظام الشاه الذين استهدفوا بالقتل والمطاردة والاضطهاد والتعذيب داخل السجون التابعة للنظام البائد وحيث كانت السفارات الصهيونية أوكارا تتربص بهم في معظم عواصم المنطقة والعالم بل وفي قلب بلدهم كما كشفت الوثائق المكتشفة في سفارة الكيان الصهيوني بطهران بعد اقتحامها وإعلانها سفارة لفلسطين.
أصحاب هذه النظرة القاصرة والسطحية يطمسون أهم ما في الموقف الإيراني المناهض للصهيونية من أبعاد ثقافية عقائدية ليمسخوا ذلك الموقف إلى مجرد ثأر ورد فعل بدائي على التحالف بين القوتين الأبرز اللتين شكلتا ركيزة هيمنة الاستعمار الغربي على المنطقة بالشراكة مع الأنظمة العربية الرجعية والعميلة للغرب والغاية هي طمس البعد التحرري الأشمل لالتزام الثورة الإيرانية وجمهوريتها بقضية فلسطين واعتبارها أن النضال ضد الكيان الصهيوني هو أحد أعمدة عقيدتها الاستراتيجية الاستقلالية والتحررية وهذا ما تبرهن عليه الأحداث التي أبقت فكرة الإمام الراحل آية الله الخميني حية ومتجددة.
بعد حوالي أربعة عقود على انتصار الثورة ما تزال الفكرة حية وتتخذ أبعادا جديدة متجذرة في وعي المجتمع الإيراني وأجياله الشابة الفتية وهو تيار متصاعد في وقت أثبتت الاختبارات السياسية صلابة الالتزام الإيراني المبدئي بقضية فلسطين وخصوصا من خلال رفض طهران الشديد للمساومات التي تعرضت لها بالضغوط والعروض التي قدمتها الولايات المتحدة في سياق التفاوض حول الملف النووي.
رسم مرشد الجمهورية الإمام السيد علي الخامنئي خطا فاصلا برفض أي مساومات لربط التفاوض بملفات المنطقة ولمحاولة استدراج إيران إلى التفاوض على التزامات سياسية وامنية تطمئن الكيان الصهيوني وتحد من جذرية الالتزام الإيراني بدعم سورية وقوى المقاومة في لبنان وفلسطين وقد ساندت غالبية ساحقة من الإيرانيين نهج القيادة وخيارها وهو ما أثمر انتصارا إيرانيا واضحا في ملحمة الصراع السياسي لانتزاع الحقوق السيادية في البرنامج النووي دون تقديم التنازلات التي أرادت الولايات المتحدة ودول الغرب انتزاعها لمصلحة الكيان الصهيوني.
جعلت الثورة الإيرانية من قضية فلسطين والالتزام بتحريرها مفصلا منهجيا في تكوين خطابها الفكري والثقافي وفي نسيج هويتها السياسية والنضالية وقد قدم الإمام الراحل آية الله الخميني رؤية فكرية استراتيجية لمكانة الكيان الصهيوني المركزية في منظومة الهيمنة الاستعمارية على المنطقة ومن هذا المنطلق اعتبر تحرير فلسطين هدفا لكفاح شعوب الشرق العربي الإسلامي ولجميع احرار العالم الذين يناضلون لتخليص البشرية من شتى وجوه الاضطهاد والاستعباد على يد القوى الاستعمارية العظمى وهو بذلك وضع مقاومة الاحتلال الصهيوني في مكانة محورية وحاسمة ضمن تعبيرات نهج التحرر والاستقلال الخاص بأي شعب او بلد في المنطقة.
إيران بمكانتها وموقعها وقدراتها واجهت تحدي الصراع ضد منظومة الهيمنة الاستعمارية في المنطقة منذ اللحظة الأولى لانتصار ثورتها الاستقلالية وهذا ما برهن عمليا على أولوية النضال ضد الكيان الصهيوني وغطرسته العدوانية والالتزام بنصرة المقاومة الفلسطينية وكفاحها التحرري ومن هنا كانت خطوات الإمام الخميني وقيادة الجمهورية في التعبير السياسي والعملي عن هذا الالتزام المبدئي الأخلاقي والاستراتيجي وثبات النهج الإيراني الواضح في هذا المجال.
يوم القدس العالمي هومن التعبيرات الثقافية والسياسية التي أرادها الإمام الخميني فرصة مهمة لتفعيل معركة الوعي حول مركزية قضية فلسطين وهو اختار بعد دراسة رمزا يجمع عليه المسلمون والمسيحيون بوصفه التعبير الحي عن الغدة السرطانية الصهيونية واغتصابها للحقوق وانتهاكها للمحرمات في المنطقة والعالم ودائما شغلت فلسطين والقدس مكانة مركزية في رسائل الإمام الخميني والسيد الخامنئي من بعده بمناسبة ميلاد السيد المسيح كما في سائر المناسبات الدينية التي تخص المسلمين على اختلاف مذاهبهم وبلدانهم .
إن معركة الوعي التي تخوضها إيران حول قضية فلسطين والقدس ساهمت في إبقاء القضية حية وأمنت استمرارية فعلية لفكرة التضامن مع المقاومة الفلسطينية كفعل تحرري يخص شعوب المنطقة والعالم ففي استقلال ورخاء كل بلد في المنطقة شيء من قضية فلسطين وكل دراسة واقعية تؤكد حتمية التزام حركات الاستقلال والتحرر بالصراع ضد الكيان الصهيوني القاعدة الاستعمارية المتقدمة للهيمنة والعدوان على الشعوب والدول.
سعت دول الغرب الاستعماري بكل جهودها الإعلامية الظاهرة والخفية لتأليب الشعب الإيراني على فكرة تبني قضية فلسطين ودعم حركات المقاومة وبرهنت التجارب على وحدة الكفاح والمصير مع شعوب المنطقة كما بينت التجربة للرأي العام الإيراني ان هذا الالتزام هو مصدر للقوة والمناعة وليس بوابة استنزاف وهدر للقدرات في غير محلها فدور إيران المحوري ضمن منظومة المقاومة كان سياجا استراتيجيا حاميا لاستقلال إيران ولقدراتها المتنامية التي تفرض نفسها على الأعداء والأصدقاء.