مقالات مختارة

الجمهورية الحائرة العميد منير عقيقي

 

ليس مغالاة القول ان سؤال ارسطو في السياسية عن “ما هو الانسب: ان يحكمنا افضل الناس او ان تحكمنا افضل القوانين”؟ كان تخمينا منه للمجتمعات التي ستتعثر في بناء الدولة. بالنسبة الى لبنان الجواب متروك لمواطنيه، اذا ما تسنى لهم او لا الحصول على شق من اثنين تضمنهما سؤال ارسطو .

مع كل محطة سياسية في البلد، وهي كثيرة ومتعددة بتعدد الرؤى الى هذا البلد الصغير، يكثر الكلام عن “دولة القانون” كمصطلح يبعث على السأم لكونه صار لازمة تتكرر في كل خطاب او تصريح، ويدرج في الملفات التي باتت مفتوحة على اكثر من موضوع، وعلى اكثر من مستوى، وتتناقل اخبارها وسائل الاعلام بشغف، الى حد صار السؤال عن اي وطن يريده اللبنانيون ضروريا شرط تحديد ما يطمحون اليه على وجه الدقة. فالجميع يمدح دستور الطائف، والكل يردد دولة القانون. وآخرون يرطنون بدولة المؤسسات، حتى صارت خيبة اللبنانيين من مفردتي الدولة والقانون سمة من يومياتهم.

ليس من باب التشكيك ان يطرح المرء سؤالا دقيقا، ويسعى من ورائه الى اجابة ادق، وهو: هل لبنان اضحى دولة بالمعنى الصحيح لمفردة الدولة بالعلم السياسي؟ وكيف؟، متى تصبح هذه الارض دولة؟

ما يحملني على هذا التساؤل هو الغربة اليومية بين اللبنانيين وبين الدولة ومتنها القانون الضامن للعدالة. هذا القلق مرده الى احوال البلد اليومية، والى سني الجمهوريتين الاولى والثانية. ففي كليهما كان التذمر ذاته، وكانت التنافر بين اللبنانيين والقوانين ذاتها. في الحالين ايضا، كان الاعتراض على القصور القانوني، وانكماش العدالة اذا صح التعبير، يدفع نحو الخراب الجماعي. ما يجعل لبنان دائما مشروع جمهورية، ويبقيه دولة حائرة.

كلنا متفقون على اننا نريد لبنان وطنا لنا، واننا متمسكون بنظامه البرلماني الديموقراطي. لكن في الممارسة فان المسالك التي نسلكها، مواطنين وسلطة، لا تؤشر ابدا الى اننا على الدرب السوية والآمنة، لا بل على العكس من ذلك تماما، ما زلنا جماعات تحكمها العصبيات والاهواء الطائفية اكثر مما يحكمها القانون. القانون في نظر الغالبية منا ما زال موضوعا ملتبسا بين كونه آلية لمعاقبة المخطئين، في حين انه ـ اي القانون ـ الفكرة الاصلية المولدة للعدالة التي وحدها تصنع الدولة المستقرة وتضمن استمرارها باعلى معدل نجاح واقل نسبة اضطرابات.

عمليا، بصدق، لم يعرف لبنان يوما الاستقرار. منذ قيام كيان اسرائيل بدأت معاناة الاعتداء على سهل الحولة وصولا الى سقوط العاصمة بيروت عام 1982، وما بينهما من ازمة اللاجئين الفلسطينيين، ناهيك بالتجاذب الداخلي فيه على الانحياز الى هذا المحور او ذاك، وصولا ايضا الى الحرب الداخلية في سبعينات القرن الماضي، ليلي ذلك اقرار اتفاق الطائف والوقوع في معضلة التفسيرات والاجتهادات على النصوص والممارسة الدستورية والسياسية، وما تلاها من اغتيالات وفراغات دستورية. كل هذه الوقائع اثبتت، او اريد لها ان تثبت ان اللبنانيين لم يبلغوا سن الرشد السياسي الذي يؤهلهم لادارة شؤونهم، على ما تقوم به الشعوب الاخرى ودولها.

ان الضمور السياسي الذي يعيشه اللبنانيون ليس جديدا، ولا هو طارئ على حياتهم، انما هو نتاج الممارسات وانعكاس التجاذبات. فالحدود كلها لطالما كانت سائبة، والانماء كان مركزا على الوسط من دون الاطراف. رغم ذلك، عندما كان يُقرع جرس الانقسام كان الجميع يقفز فوق واقعه الرديء ليتمترس بالفوضى ضد القانون، ومن دون ان يلجأ الى المطالبة الديموقراطية بالقانون والعدالة وتقديم الداخل على الخارج. الوطن الذي يُبنى على هكذا جدلية مستمرة حول القانون والعدالة بوصفهما علاقة تعاقدية لبناء الدولة، لن يصير وطنا وكيانا ديموقراطيا ينادي به الجميع، ولتستمر بعده الخيبة المديدة، وتبقى الجمهورية حائرة.

العميد منير عقيقي – مجلة الامن العام عدد 45 الصادر في 5/6/2017

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى